ظاهرة ازدواجية المؤسسة العسكرية – الحائط العربي
ظاهرة ازدواجية المؤسسة العسكرية

ظاهرة ازدواجية المؤسسة العسكرية



من الدروس الأولى التى يتلقاها دارسو علم السياسة أن الدولة تحتكر استخدام القوة فى المجتمع حتى تستطيع بسط النظام وضمان الالتزام بالقوانين وما تقضى به الأحكام القضائية المبنية عليها، ودون احتكار الدولة للقوة تتماهى الساحة السياسية الداخلية مع مثيلتها الدولية، بمعنى أن تغيب عنها السلطة الآمرة التى تضمن الالتزام بالقوانين كما يحدث فى العلاقات الدولية، ومن البديهى أن تكون هذه القوة التى تحتكرها الدولة وتقوم بتوظيفها خاضعة لقيادة واحدة وإلا ساد عدم الاستقرار بل والتهديد بتفكك الدولة، وقد يحدث فى بعض الأحيان تحد لقوة الدولة بمحاولة تمرد أو انقلاب، لكن هذا يمثل عادة وضعًا مؤقتًا ينتهى إما بهزيمة هذه المحاولات واستعادة وحدة القيادة وسيطرتها، أو بنجاحها وفى هذه الحالة تتغير القيادة لكن وحدة المؤسسة التى تحتكر شرعية استخدام القوة تبقى قائمة، سواء لضمان الالتزام بالقانون فى الداخل أو للدفاع عن الوطن ضد أى محاولات خارجية للنيل من استقلاله أو سلامته الإقليمية، وقد تستخدم حركة معارضة القوة المسلحة فى محاولة لتغيير النظام أو الانفصال فتُهزم أو تنتصر، لكن مبدأ وحدة المؤسسة العسكرية يبقى قائمًا فى النهاية سواء بالانتصار على الخصوم أو بنجاحهم فى الإمساك بالسلطة أو الانفصال بحيث يشكلون كيانًا جديدًا لابد أن يسود فيه بدوره احتكار للقوة.

غير أن هذه المقالة تتناول ظاهرة مختلفة عن الحالات السابقة لأنها تبدأ بوضع يفرز ازدواجية فى المؤسسة العسكرية بمعنى شمول المؤسسة العسكرية فى بلد ما لكيان عسكريٍ مواز، صحيح أن الحال ينتهى به عادة لأن يكون جزءًا من المؤسسة العسكرية الرسمية يُفترض أن يكون خاضعًا لها، لكنه لظروف نشأته والهدف من هذه النشأة يبقى محافظًا على استقلالية فعلية، بل إنه فى إحدى الحالات الشهيرة فى الوطن العربى ليس جزءًا من المؤسسة العسكرية الرسمية وإنما متعايش ومتناغم معها، وتنشأ هذه الكيانات العسكرية الموازية عادة للأسف استنادًا إلى قاعدة اجتماعية تشير إلى انقسامات سكانية تكون أحيانًا حادة سواء كانت هذه الانقسامات طائفية مذهبية أو قبلية، ويعنى هذا أن أى خلل فى العلاقة بين هذه الكيانات الموازية وسلطة الدولة سوف يتحول ببساطة إلى صدام داخلى له قاعدته الاجتماعية، وقد يصل إلى حد الحرب الأهلية، وليس من الضرورى أن تنشأ هذه الكيانات منذ البداية برضا الدولة، وإن كانت تنشأ أحيانًا بدعوة من قيادات نافذة فيها حتى ولو لم تكن قيادات سياسية أصلًا، لكن هذه الكيانات بعد أن تثبت فعاليتها تحظى بإقرار الدولة لها، وإضفاء صفة رسمية عليها مع الإبقاء على كيانها المستقل حتى ولو وُضِعت ضمن التسلسل القيادى العادى فى الدولة، وهنا مكمن الخطورة لأن طابعها الاستقلالى يبقى الأساس فى سلوكها، وليس مضمونًا أن يكون هذا السلوك دائمًا متسقًا مع السياسات والقرارات الرسمية، ومع ذلك فليس من الضرورى دائمًا أن توضع ضمن هيكلية المؤسسة العسكرية رسميًا، ولكن حالة من التعايش والتناغم تسود العلاقة بين الكيان الموازى والمؤسسة العسكرية الرسمية سواء لوجود أهداف مشتركة أو لأن توازن القوى بينهما لا يسمح بصدام.

وقد ارتبطت نشأة هذه الكيانات العسكرية الموازية عادة بمشكلة حادة استعصت على المواجهة من قِبَل السلطات الرسمية كصراع داخلى بين فئات اجتماعية متناحرة على أسس قبلية، أو هجمة إرهابية ضارية تتعرض لها الدولة تهدد وحدتها وسلامتها الإقليمية، أو احتلال خارجى يُستخدم فى البداية كمبرر لنشأتها وإكسابها نوعًا من الشرعية، لكن هذه الكيانات بعد أن تثبت فعاليتها فى الوفاء بالمهمة الأساسية التى نشأت من أجلها تبدأ فى التحول إلى مؤسسة ذات طابع سياسى لها رؤيتها السياسية الخاصة بها، والخطورة أن القوة المسلحة التى تحوزها هذه الكيانات تعطى لرؤيتها ثقلًا مستمدًا من هذه القوة بحيث يصعب تجاهل مطالبها، أو على أقل الفروض يمنحها القدرة على منع تنفيذ أى قرار يخالف هذه الرؤية وإلا استخدمت قوتها لفرض ما تريد، وهو بطبيعة الحال وضع يتنافى مع الديمقراطية الناشئة أو الجريحة القائمة فى المجتمع الذى يشهد هذه الظاهرة إن كانت هناك ديمقراطية أصلًا، بل إن هذه الكيانات الموازية قد تكون لها سياستها الخارجية الخاصة بها فتقوم بأعمال ضد قوة احتلال بغير تشاور مع سلطات الدولة، وتطلق التهديدات فى سياق إدارة أزمة حادة مع سلطة الاحتلال، أو تتدخل لنصرة طرف فى صراع داخلى فى دولة مجاورة بغض النظر عما إذا كان هذا يمثل سياسة الدولة أو لا يمثلها، وكلها أنماط من السلوك يمكن أن تترتب عليها أزمات وصدامات داخلية وخارجية حادة.

وثمة بعد ثان لنشأة هذه الكيانات العسكرية الموازية لا يقل خطورة عن البعد الداخلي، وهو أنها قد تنشأ تنفيذًا لإرادة خارجية تستغل الظروف السائدة فى دولة ما لمد نفوذها لهذه الدولة، وفى بعض الأحيان قد تنشأ هذه الكيانات أولًا انعكاسًا لأوضاع داخلية صرفة، لكنها سرعان ما تحظى بدعم خارجى من دولة أو أكثر إذا كان توظيفها ممكنًا لخدمة مصالح الدول الداعمة، وهنا مصدر آخر لخطورة هذه الكيانات، وهو أن أى صدام بينها وبين سلطة الدولة لن يقف عند حدود الصراع الداخلى ولكنه سوف ينطوى بالضرورة على أبعاد دولية تساعد على تصعيده أو على الأقل إطالة أمده بتعزيز قوى خارجية للكيانات المسلحة الموازية التى تحقق مصالحها. تعانى الدول الوطنية العربية هشاشة واضحة أوصلت بعضها إلى حالة الدول الفاشلة بامتياز، وتأتى هذه الظاهرة فى عدد من الدول العربية لكى تفاقم هذه الهشاشة، وللأسف فإنه بينما تبدو طريقة العلاج سهلة نظريًا فإن صعوبات عملية هائلة تعوق إنجاز هذا العلاج دون تكلفة باهظة.

نقلا عن الشرق الأوسط