لا تمثل حركة «طالبان» مجرد فصيل سياسي في إحدى الدول الإسلامية وسط آسيا، لكنها تبدو أكبر من ذلك وأكثر، لأنها تطور طبيعي لحركة طلاب المعاهد الدينية في تلك الدولة الأفغانية التي كانت دائماً مثار اهتمام ومبعث رغبة ومركز جاذبية لأطماع القوى الاستعمارية المختلفة آسيوية وأوروبية وأمريكية. ولقد شاهدت فيلماً تسجيلياً لزيارة الملك أمان الله لمصر في نهاية عشرينات القرن الماضي وكيف أن ذلك الملك المستنير كان يسعى إلى رفع مستوى شعبه والارتقاء بأبناء وطنه في نواحي التعليم والتربية والثقافة حتى قطع أشواطاً لا بأس بها، وقام بزيارة للملك فؤاد ملك مصر حينذاك والمعروف بدوره الكبير في إنشاء جامعة القاهرة، وكانت احتفالات مصر باستقبال العاهل الأفغاني تعبيراً عن درجة التطور التي كان ذلك الشعب الآسيوي الصامد قد ارتقى إليها، ثم وقع في يدي فيلم تسجيلي آخر لزيارة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر للعاصمة الأفغانية كابول في طريق عودته من باندونج عام 1955 وكيف خرجت الجماهير في شوارع العاصمة الأفغانية تحيي رئيس الدولة التي ينتمي إليها الأزهر الشريف والتي تتمتع بصلات وثيقة مع الدولة الأفغانية، وعقد الرئيس عبد الناصر يومها مباحثات مع رئيس وزراء أفغانستان، وكان ترحيب الشعب الأفغاني بالرئيس المصري وقتها رسالة واضحة حول التضامن الإسلامي المعتدل والفهم الصحيح للعلاقات الروحية بين العرب والأفغان الذين يرتبط اسم دولتهم بالداعية الإسلامي الأكبر جمال الدين الأفغاني الذي حاولت بعض الروايات التشكيك في أصوله، حتى ادعت بعض الكتابات المعادية له أنه كان إيرانياً زرعته الاستخبارات البريطانية ليلعب دوراً في حركة الوحدة الإسلامية في القرن التاسع عشر. وأياً كانت هويته فإليه يرجع الفضل في الصحوة التي بشر بها وتلاميذه من العرب الذين رافقوه في مسيرته التنويرية وفي مقدمتهم الإمام المصري الأزهري المجدد محمد عبده.
وقد دارت الأيام وتزايدت القيمة الاستراتيجية لأفغانستان باعتبارها معبراً في وسط آسيا بين شرقها وغربها، فالدولة لها حدود مع القوى الكبرى في المنطقة بدءاً من روسيا والصين، مروراً بالهند وباكستان وصولاً إلى إيران. والشعب الأفغاني شعب ذو بأس حكمت عليه التضاريس الصعبة أن يكون قوياً في كل الظروف، وظلت بلاده حصينة من التدخل الأجنبي تقاوم الغزاة والطغاة بدءاً من الأطماع البريطانية، مروراً بالغزو السوفييتي، وصولًا إلى العدوان الأمريكي عليها في أعقاب حادث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 الذي قررت على أثره واشنطن ضرب حركة «طالبان» في عقر دارها، وأمضت عشرين عاماً تثبت أركانها وتنفق المليارات إلى جانب عشرات الألوف من القتلى جراء الغارات الأمريكية على مناطق سيطرة «طالبان». ثم كانت المفاجأة بأن قررت الولايات المتحدة انسحاباً إرادياً من طرف واحد لكي تترك أفغانستان مسرحاً للتصفيات في محاولة تشبه إلى حد كبير الانسحاب الأحادي لقوات الجيش الإسرائيلي من إقليم غزة منذ عدة سنوات. ولكن قراءة ما جرى في أفغانستان مؤخراً تستحضر أمامنا بعض الملاحظات أهمها:
* أولاً: لا بد أن تقلق روسيا الاتحادية وفيها تجمعات إسلامية تتركز في إقليم الشيشان، فضلاً عن مخاوف الصين من علاقات متقاربة جغرافياً بين حركة «طالبان» التي تنفرد بالحكم في كابول وبين الجماعات الصينية الإٍسلامية التي تطالب بالحكم الذاتي، أما باكستان فهي دولة تتمتع بجهاز استخبارات قوي ولها تواجد دائم في الأراضي الأفغانية وستتأرجح العلاقة بين إسلام أباد وكابول قرباً وبعداً حسب الظروف المحيطة، أما الهند فهي تنظر بقلق دائم إلى كل القوى الإسلامية المحيطة بها على الرغم من وجود 120 مليون مسلم فيها خصوصاً في ظل مشكلة كشمير المعلقة بين الهند وباكستان منذ عام التقسيم.
* ثانياً: ستسعى بعض الدول الإسلامية والعربية إلى خطب ود حركة «طالبان» ولعب دور معها في المخططات القادمة لمستقبل المنطقة سواء في غرب آسيا أو الشرق الأوسط، فهناك إحساس عام بأن الأمور ستمضي في دروب وعرة مثل ممرات أفغانستان الصخرية وطرقها الجبلية؛ بل إن دولة بحجم روسيا الاتحادية حاولت أن تخطب ود حركة «طالبان» لفتح صفحة جديدة معها متناسية أن ميلاد تلك الحركة قد بدأ في ظل ظروف مواجهة دامية مع الوجود السوفييتي فوق أرض أفغانستان.
* ثالثاً: في ظني أن الولايات المتحدة هي الخاسر الأكبر في هذه الخطوة الأخيرة التي تمت دون تدرج أو ترتيب طويل يسمح للشعب الأفغاني بأن يعيد النظر في أوضاعه وأن يحدد ملامح مستقبله، لقد فقدت الولايات المتحدة كثيراً من هيبتها في ظل الانسحاب المتعجل بالصورة التي أدت إلى التوتر والارتباك اللذين شهدهما العالم في الأسابيع الأخيرة.
* رابعاً: ستحاول حركة «طالبان» تغيير جلدها والخروج من ردائها التقليدي لكي تبدو أكثر قبولاً وإشراقاً لدى المجتمع الدولي، لكن ذلك أمر قد لا يتحقق بسهولة؛ بل قد يحتاج إلى ما يبرهن عليه من سلوك دولي وإقليمي لحركة «طالبان» مع قطيعة للعلاقات بكل التنظيمات المتشددة والقوى التي ترفع شعارات إسلامية وتقدم طرحاً مغلوطاً للشريعة السمحاء.
إن العرب يتطلعون إلى الدولة الشقيقة في أفغانستان آملين أن تكون نموذجاً للاعتدال والوسطية وأن تكون إضافة إلى جمهرة المسلمين في مواجهة الاختلافات والتغييرات التي تشهدها منطقة وسط وغرب آسيا.
نقلا عن صحيفة الخليج