تهاوت المدن والمحافظات الأفغانية الواحدة تلو الأخرى في أيدي حركة «طالبان» بشكل مفاجئ، بينما كانت توقعات الاستخبارات الأميركية أن تصمد حكومة كابول لستة أشهر على أقل تقدير قبل أن تكون الحركة قد أحكمت قبضتها على العاصمة. وأدى هذا الانهيار لحدوث فراغ استراتيجي، وأثار قلقاً كبيراً، لاسيما لدى دول الجوار الأفغاني.
ففي ظل حالة من الترقب الداخلي والعالمي من صعود «طالبان» وسيطرتها على حكم البلاد، وإعلانها إقامة نظام الإمارة الإسلامية، تثار الأسئلة حول السياسات المتوقعة من «طالبان»، داخلياً وخارجياً، في ظل التجربة المريرة التى عاشتها أفغانستان تحت حكمها من 1996 وحتى 2001 وانتهت تجربتها بسقوطها بعد الغزو الأميركي نتيجة احتضانها تنظيم «القاعدة».
لكن في عام2021 هل ستكون «طالبان» نسخة معدلة من السابق، وهل سنشهد تغييرات حقيقية في سياساتها، داخلياً وخارجياً. في الواقع أن الخطابات التى صدرت من بعض قادة «طالبان» ومنهم المتحدث باسمها ذبيح الله مجاهد في أول مؤتمر صحفي للحركة تضمنت تطمينات وتعهدات للداخل والخارج، حيث تعهدت الحركة بإعطاء النساء حقوقهن في العمل والتعليم وإلزامهن فقط بارتداء الحجاب في إطار قوانين الشريعة الإسلامية، وهو مفهوم مطاط وعام. كما أصدرت الحركة عفواً عاماً عن موظفي الحكومة، وكذلك قوات الجيش والمتعاونين مع القوات الأميركية وقوات حلف «الناتو»، وطالبت الشباب الأفغان بالبقاء في أفغانستان لتنمية بلدهم، إضافة إلى تعهد الحركة بألا تكون أفغانستان نقطة تهديد للدول الخارجية أو لدول الجوار، بما يعني أنها لن تكون مأوى للتنظيمات الإرهابية، مثل «داعش» و«القاعدة»، لكن على المستوى العملي فإن الدول الخارجية والغربية اتسم موقفها بالحذر من تعهدات وتصريحات قادة طالبان، ورهنوها بتغيير حقيقي في سلوك الحركة على أرض الواقع، أي ترجمة الأقوال إلى أفعال.
وتستهدف طالبان من وراء هذا الخطاب والتصريحات والتطمينات النظرية، كسر عزلتها الدولية، وكسب الاعتراف الدولي بها، وجذب الاستثمارات الأجنبية في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعيشها الشعب الأفغاني، لكنها في المقابل أعلنت إقامة نظام الإمارة الإسلامية، وتغيير النظام السياسي في البلاد، ولذلك فإن التغيير في سياسات طالبان قد يكون فقط في التكتيكات، وليس الاستراتيجيات أو الأهداف.
ورغم أن الحركة قدمت تعهدات بألا تكون أفغانستان منطلقاً لأعمال إرهابية ضد الآخرين، إلا أن البعض يخشى أن تصبح أفغانستان طالبان ساحة لاجتذاب التنظيمات الدينية المتشددة في الكثير من دول العالم، خاصة في ظل حالة الفوضى التى تعيشها البلاد، ومع تصاعد الحركات المعارضة لطالبان، كما حدث في جلال أباد وغيرها نتيجة لاعتراض السكان على سياسات الحركة، وتغيير الهوية الأفغانية القائمة على التعددية، كذلك الشكوك حول تشكيل حكومة وطنية تمثل كل أطياف الشعب الأفغاني، والتي ستكون حكومة صلبها عناصر طالبان، مع إدخال بعض العناصر من النظام القديم والقبائل لتجميل الصورة ليس أكثر أمام العالم. ولكن تبقى علاقة طالبان مع ماضيها المحدد الرئيس لعلاقتها مع العالم خلال المرحلة المقبلة. كما يبقى شكل الحكم الذي ستقيمه الحركة وممارساتها على أرض الواقع، وتعاملها مع معارضيها محددات مهمة لإثبات مدى حدوث تغير في نهجها من عدمه.
في المقابل، أطلق الانسحاب الأميركي من أفغانستان سباقاً بين عدة توازنات إقليمية لملء الفراغ، حيث بدأت باكستان وإيران وتركيا، ناهيك عن روسيا والصين كل منهم يعد نفسه لمرحلة ما بعد أميركا.
فباكستان البلد المجاور سيزداد نفوذها بحكم العلاقة التاريخية مع طالبان، وستعمل إيران أن تحقق موطئ قدم لها في أفغانستان عبر أقلية الهزارة، بينما ستسعى تركيا إلى دور عبر بناء تواصل مع حركة طالبان وتقديم الدعم الأمني الذي تحتاجه الحركة. كما تلوح بوادر تفاهم بين بكين وحركة طالبان من ناحية، وروسيا وطالبان من ناحية أخرى تتمثل في تأكيد الحركة أنها لن تتدخل في قضية «الإيغور» المسلمين في الصين باعتبارها أمراً داخلياً، كما أكدت الحركة أنها ستعمل على تحسين علاقتها مع روسيا. هكذا مرت الأعوام العشرة للوجود السوفييتي، تماماً كما مرت الأعوام العشرون على الغزو الأميركي، وقبلها الاحتلال البريطاني في القرن التاسع عشر من دون أن يغير ذلك شيئاً من طبيعة الأفغان، وكأن الشعب الأفغاني يقول يأتي من يأتي ونحن باقون.
نقلا عن جريدة الأتحاد