تشهد الحدود بين لبنان وإسرائيل تبادلاً شبه يومي لإطلاق النار منذ بدء الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة بعد عملية “طوفان الأقصى”، في 7 أكتوبر الماضي، الأمر الذي يُثير قلقاً إقليمياً ودولياً من توسيع نطاق الحرب الحالية لتمتد إلى صراع إقليمي، يضم وكلاء إيران في المنطقة، ولا سيما حزب الله اللبناني.
وقد تزايدت حدة هذا القلق بعد اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس صالح العاروري، في 2 يناير الجاري، في ضربة إسرائيلية في الضاحية الجنوبية لبيروت، قبل يوم من ذكرى اغتيال الولايات المتحدة قاسم سليماني، القائد السابق لفيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، وأبو مهدي المهندس، نائب قائد مليشيات الحشد الشعبي العراقية الموالية لطهران في ٣ يناير ٢٠٢٠. فقد أكد حزب الله في بيان له عقب اغتيال العاروري أنه “لن يمر أبداً من دون رد وعقاب”، ووصف الهجوم بأنه “اعتداء خطير على لبنان”.
واللافت في هذا السياق هو أن كان هناك عدد من المؤشرات الإسرائيلية التي تكشف عن أن امتداد الحرب الحالية إلى لبنان مسألة وقت. وقد كشف تقرير لصحيفة “التايمز” البريطانية، في ١٨ ديسمبر الفائت، أن الجيش الإسرائيلي وضع خططًا لغزو جنوب لبنان، رغم الدعوات الغربية، ولا سيما الأمريكية، لضبط النفس.
تحركات متوازية
يُمارس عديد من الإسرائيليين الذين تم إجلاؤهم من شمال إسرائيل، والذين يُشكلون لوبي يحمل رقم (١٧٠١) – وهو رقم قرار مجلس الأمن الدولي الذي أنهى حرب لبنان الثانية لعام ٢٠٠٦- ضغوطاً على إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لدعم العمليات العسكرية الإسرائيلية لدفع حزب الله بعيداً عن الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، حيث يرى اللوبي أن الوسائل الدبلوماسية غير فعّالة في الحفاظ على سلامة المناطق في شمال إسرائيل.
بيد أنّ الإدارة الأمريكية ترفض توسيع نطاق العمليات العسكرية الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية؛ تجنباً لتحولها إلى حرب إقليمية، ولذلك فإنها تُمارس المزيد من الضغوط المضادة على إسرائيل لعدم توسيع عملياتها العسكرية إلى الأراضي اللبنانية. وتتمثل أبرز تلك الضغوط فيما يلي:
1- انسحاب حاملة الطائرات “جيرالد فورد”: في بداية العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد حركة حماس في قطاع غزة بعد عمليتها في 7 أكتوبر الماضي، أعلنت الولايات المتحدة عن تحريك عدد من القطع العسكرية إلى مياه شرق البحر الأبيض المتوسط؛ لتقديم الدعم لإسرائيل، ومنع تحول الحرب إلى صراع إقليمي. وبعد ما يقرب من تسعين يوماً من الهجمات الإسرائيلية، أعلنت واشنطن، في أول يناير الجاري، أنه سيتم إعادة حاملة الطائرات الأمريكية “يو إس إس جيرالد فورد” إلى مينائها الرئيسي- نورفولك بولاية فرجينيا- بعد أشهر من الخدمة الإضافية في البحر الأبيض المتوسط لتوفير الدعم لإسرائيل.
وعلى الرغم من استمرار احتفاظ الولايات المتحدة بقوة عسكرية كبيرة في المنطقة مع انسحاب حاملة الطائرات “جيرالد فورد”، حيث لا تزال حاملة الطائرات “يو إس إس دوايت دي أيزنهاور” متواجدة في المنطقة، فإن الخطوة في حد ذاتها تمثل عامل ضغط على إسرائيل، حيث كان الهدف من تواجدها هو ردع إيران وحزب الله عن شن هجمات مؤثرة ضد إسرائيل وسط حربها في قطاع غزة. ولكن تحليلات إسرائيلية تشير إلى أن انسحاب حاملة الطائرات الأمريكية قد يدفع حزب الله ووكلاء إيران إلى تفسيره على أنه فرصة لتحمل المزيد من المخاطر من تصعيد هجماتهم العسكرية ضد إسرائيل.
2- إقناع تل أبيب بعدم فتح جبهتين في آن واحد: سعى المسئولون الأمريكيون، بما في ذلك الرئيس جو بايدن، إلى إقناع القادة الإسرائيليين منذ بداية الحرب مع حركة حماس، بعدم المخاطرة بفتح حرب على جبهتين من خلال تصعيد الضربات المتبادلة مع حزب الله. وتتحدث العديد من التقارير الأمريكية عن تواصل مسئولي الإدارة الأمريكية مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومته لحثهم إلى اتباع نهج أكثر تحفظاً بدلاً من المخاطرة بحرب شاملة في كل من غزة ولبنان.
3- منع هجوم إسرائيلي مخطط له ضد حزب الله: في إطار الجهود الأمريكية لمنع توسع العمليات العسكرية الإسرائيلية لتشمل لبنان، أشار تقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال” في ٢٣ ديسمبر الفائت، إلى أن بايدن أقنع نتنياهو بعدم شن ضربة وقائية على حزب الله بعد أيام من عملية “طوفان الأقصى”، بينما كانت طائرات سلاح الجو الإسرائيلي في الجو، بسبب المخاوف من أن تؤدي إلى حرب على مستوى المنطقة.
4- التوسط لتخفيف التوترات على الحدود: بعد نجاح الوساطة الأمريكية بقيادة عاموس هوكشتاين، كبير مستشاري البيت الأبيض لأمن الطاقة، في إنهاء النزاع البحري اللبناني-الإسرائيلي طويل الأمد في أكتوبر ٢٠٢٢، تجري الإدارة الأمريكية محادثات مع إسرائيل ولبنان ووسطاء حزب الله للحد من التوترات الحالية على الحدود الإسرائيلية-اللبنانية، واستعادة الهدوء على المدى الطويل من خلال إبعاد قوات حزب الله عن الحدود، وذلك وفقاً لمسئولين لبنانيين وإسرائيليين، ومشاركين آخرين في المحادثات، بحسب تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز” في ٢٢ ديسمبر الفائت. وقد ركزت المناقشات على منع تصعيد المناوشات عبر الحدود اللبنانية-الإسرائيلية إلى صراع شامل، وكذلك إيجاد حل للنزاعات الحدودية طويلة الأمد بين إسرائيل ولبنان.
ويشير التقرير إلى أنه بجانب جهودها لاحتواء خطر التصعيد المباشر بين الجيش الإسرائيلي وحزب الله، تناقش إدارة بايدن مع الأطراف معايير اتفاق طويل الأجل لزيادة الاستقرار على طول الحدود، حتى يشعر عشرات الآلاف من المدنيين النازحين في شمال إسرائيل وجنوب لبنان بالأمان الكافي للعودة إلى ديارهم بعد انتهاء الحرب في غزة. وأحد المبادئ التوجيهية التي تدعمها إدارة بايدن هي أن تكون القوات المسلحة اللبنانية هي القوة الحدودية الوحيدة على جانب لبنان من الحدود، وبالتالي دفع قوات حزب الله بعيداً عن الحدود مع إسرائيل.
إخفاق محتمل
تزايد التواجد العسكري الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط في أعقاب عملية “طوفان الأقصى”، والذي كان يهدف بصورة رئيسية إلى ردع إيران وحلفائها عن توسيع نطاق الحرب، وهو ما فشلت الولايات المتحدة في تحقيقه. فقد انخرط حزب الله في مناوشات مسلحة شبه يومية مع القوات الإسرائيلية في شمال إسرائيل، وهاجمت مليشيا الحوثيين السفن ذات الصلة بإسرائيل في البحر الأحمر، بالإضافة إلى تزايد تعرض القوات العسكرية الأمريكية في سوريا والعراق لهجمات متكررة من الجماعات الموالية لطهران.
وقد دفع اغتيال إسرائيل نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس صالح العاروري، في 2 يناير الجاري، في ضربة إسرائيلية في الضاحية الجنوبية لبيروت، ورضا موسوي، القائد البارز في الحرس الثوري الإيراني، في ٢٥ ديسمبر الفائت، بغارة جوية استهدفت منطقة السيدة زينب بدمشق؛ إيران وحزب الله إلى التأكيد على أن “إسرائيل ستدفع ثمن تلك الاغتيالات”.
وعلى الرغم من عدم تصعيد حدة المواجهات بين الجيش الإسرائيلي وحزب الله، فإن اغتيال العاروري قد يزيد من فرصها، وهو ما يُنذر بأن منطقة الشرق الأوسط تقترب من حافة صراع إقليمي واسع النطاق، والذي سيقود إلى مزيدٍ من الانخراط العسكري الأمريكي في المنطقة، وهو ما تحاول الولايات المتحدة تجنبه في وقت تقترب فيه الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقرر لها في الخامس من نوفمبر المقبل، ولتأثيره على الموارد الأمريكية التي تستثمرها في الصراع الدولي الأكثر أهمية وتأثيراً على النفوذ والقيادة الأمريكية للنظام الدولي الراهن.