عقب السقوط السريع لكابول في أيدي «طالبان»، بدأ البعض يروج لنظرية المؤامرة فيما جرى. وجوهر هذا الطرح هو نفي أن تكون «طالبان» قد انتصرت بقدراتها الذاتية، وإنما ثمة تواطؤ أميركي فيما جرى، سواء أكان هذا التواطؤ من جانب واحد أو بالاتفاق مع «طالبان».
ومنطق أصحاب هذا الطرح أن الولايات المتحدة تريد أن تجعل من «طالبان» القوية شوكة موجعة في أجساد خصومها الدوليين (مثل الصين وروسيا)، والإقليميين (مثل إيران).
والحقيقة أنني لم أتحمس أبداً للإفراط في توظيف «نظرية المؤامرة» في تحليل العلاقات الدولية، وذلك لسبب منهجي هو أن مفهوم «المصلحة الوطنية» جدير بأن يفسر كافة مظاهر السلوك الخارجي للدول، فدعم بريطانيا مثلاً لجماعة «الإخوان المسلمين» منذ نشأتها في مصر عام 1928 يُفَسر بسهولة بمصلحتها في ضرب الحركة الوطنية المصرية التي كانت تركز على مطلب الاستقلال، فيما ركزت الجماعة على ادعاء إحياء الدين، ومن الممكن طبعاً أن نعتبر هذا الدعم «مؤامرة» على الحركة الوطنية المصرية، فما هو الخيط الرفيع الذي يفصل بين ما يمكن تسميته بالمؤامرة والسلوك العادي للدول؟ أعتقد أن ثمة معايير ثلاثة يمكن أن تفيد في هذا التمييز، وإن لم يكن ضرورياً أن تتوفر كلها، وأول هذه المعايير صفة السرية، بمعنى أن المؤامرات لا تكون علنية وإنما تتم في الخفاء. والثاني أنها تنطوي على أكاذيب. والثالث أنها تخالف السياسة المُعلنة للدولة. ولنأخذ للتوضيح العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956، فقد بُني على معاهدة «سيفر» السرية بين بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، وإن افتضح أمرها بعد فشل العدوان، وتضمن أكذوبة أن التدخل البريطاني الفرنسي كان يهدف لتأمين الملاحة في قناة السويس، بينما كان الهدف الحقيقي هو تصفية تجربة عبد الناصر وخطها التحرري، وهو ما كان يعني ضمناً أن السياسة المعلنة ليست هي السياسة الفعلية. وشهدنا في السنوات الأخيرة كيف تُستخدم اتهامات انتهاكات حقوق الإنسان أو التورط في عمليات إرهابية لتبرير عمليات التدخل الخارجي.
فأين السلوك الأميركي في أفغانستان من هذا التحليل؟ بدايةً، ليس وارداً أن تمرغ القوة العظمى في العالم سمعتَها الدولية في الوحل لمجرد أن تغرس «شوكة موجعة» في أجساد خصومها، وإنما واقع الحال يشي بأن المشروع الأميركي في أفغانستان قد فشل كما فشل سابقاه في فيتنام والعراق، لأسباب لا يعنينا الآن شرحها، وبالتالي فإن قرار الانسحاب الذي مثّل الالتزام الأميركي الرئيسي في اتفاقية فبراير2020 كان بسبب هذا الفشل وليس نكايةً في خصوم الولايات المتحدة.
غير أن هذا التحليل لا يستبعد افتراض أن تكون دوائر صنع القرار الأميركية قد رأت أن تستفيد من هذه الهزيمة بشكل أو بآخر، بمعنى أنه إذا كنا قد فشلنا في تحقيق النصر فلماذا لا نجعل هزيمتنا مصدر إزعاج لخصومنا، وذلك عبر السماح بوجود «طالبان» قوية تقض مضاجع هؤلاء الخصوم؟
ويحتاج هذا الافتراض إلى إثبات بطبيعة الحال، ومن القرائن التي تعززه سلوك القيادة الأميركية تجاه العتاد العسكري الهائل في أفغانستان، فقد كانت تستطيع أن ترتب لسحبه أو تدميره إن لم تستطع كما تفعل كل الجيوش المنسحبة، خاصة وأنها تعلم بقرار الانسحاب منذ توقيع الاتفاق في فبراير2020، وكان المفروض للانسحاب أن يكتمل في مايو2021 وأُجل.
وقد صرح مصدر مسؤول في البنتاجون من أيام بأن «طالبان» باتت تسيطر على كميات هائلة من المعدات والأسلحة الأميركية ضاعفت قدرتها عشرات المرات مقارنةً بما قبل غزو2001. وقدّر ما استولت عليه من عتاد بأكثر من ألفي مدرعة وعشرات المدافع الثقيلة ونحو 40 طائرة هليكوبتر و20 طائرة استطلاع وعدد من الطائرات المسيَّرة.. وأعتقد أن هذا هو ما يجب أن يُسأل عنه بايدن وليس فوضى المطار.
نقلا عن جريدة الاتحاد