بدا “الجيش القومي الموحّد” حلماً أجمل من أن يكون حقيقة في السودان. وشكّل طرح دمج “قوات الدعم السريع” في القوات المسلّحة (الجيش) اقتراباً من أخطر المخاطر. لكن ما سبقه كان قراراً أكثر أهميةً وتاريخيةً من أن يُطبّق بيُسر وسلاسة: عودة العسكريين “طوعاً” إلى ثكنهم تنفيذاً لقرارهم الخروج من حياة سياسية لطالما عبثوا بها وأفسدوها خلال سبعة عقود من الاستقلال، بل سفكوا الدماء لإبقائها تحت إمرتهم.
لكن ثلاثة عقود من نظام عمر البشير، بعد نحو عقدَين من نظام جعفر نميري وما سبقهما من تقلّبات، أدّت الى انفصال جنوب السودان وأنهكت اقتصاد البلاد وأمنه ووئام مجتمعاته، إذ أثبت العسكريون أنهم ربما يعرفون كيف يديرون سلطة لكنهم قطعاً لا يعرفون ولا يسعون إلى بناء دولة. في الفترات المتقطّعة التي أمكن المدنيين خلالها أن يحكموا، كان هناك شروع بوضع الأمور في نصابها الدستوري والقانوني، والطبيعي، لكن انقلابات العسكر لا تلبث أن تهدم كل جهد ليبدأ السودان معهم مسيرة أخرى من العبث.
أكثر من مرّة ثار الشعب السوداني لإطاحة الحاكم العسكري، في 1964 و1985 و2018، وهو لا يزال في خضم كفاحه من أجل “دولة مدنية”، وبدا أنه قاب قوسين وأدنى من خطوة متقدمة وحاسمة، إلا أن الاقتتال بين الجيش و”الدعم” رسم علامات استفهام حول مستقبل حلٍّ سياسي إصلاحي تمثّل بـ”الاتفاق الإطاري”، إذ إن تجاوز آثار هذا الصدام العسكري لن يتمّ سريعاً، ثم إن أحداً لا يعرف تماماً أي صيغة ستنبثق من تصفية الصراع الذي قاد إلى اقتتال لا يمكن أن ينتهي بلا غالب ولا مغلوب.
الثورة الشعبية الأخيرة لا تزال جارية بأشكال وأساليب شتّى، وهي دهمت عسكر البشير بانطلاقها من تردٍّ كبير، ليس فقط في الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، بل في مختلف القطاعات، وكان واضحاً أن مسؤولية كاملة فيها تقع على فشل البشير وسياساته، لذا بادر زملاؤه الجنرالات إلى تنحيته، مدركين أنهم هذه المرّة إزاء شعب تغيّرت أجياله ومفاهيمه، وأيضاً إزاء عزلة وعقوبات دوليتين خانقتين، وبالتالي فإنهم لن يتمكّنوا من وراثة البشير من دون أن يقدموا تنازلات جوهرية للمكوّنات المدنية التي أشعلت الثورة وطرحت مطالبها وأوضحت إرادتها.
عندما سلّم العسكريون الكثير من الصلاحيات إلى الحكومة المدنية برئاسة عبد الله حمدوك في 2019 كانوا في حاجة إليه لتنظيف الإرث الأسود للبشير في الخارج ولدى الدول والمؤسسات المانحة، وفي حاجة إلى حكومته لتصنع سمعة جديدة للحكم في الداخل. لكنهم لم يقولوا كلمتهم الأخيرة بالنسبة إلى مستقبل الحكم ومدنية الدولة، وإذ اعتقدوا أنهم سيتمكّنون من ترويض المكوّنات المدنية وتفريق صفوفها اصطدموا بأن لديها أجندة وتصميماً على تفكيك النظام السابق والتخلّص من حكم العسكر، وكانت النقطتان المهمّتان في الإصلاحات السياسية للحكومة إخضاع الجيش للسلطة المدنية وإنهاء تعدّد الجيوش والحركات المسلّحة، وفي الإصلاحات الاقتصادية إدخال شركاته في النظام المالي والضريبي للدولة. لكن هاتين النقطتين كانتا كافيتين لتبرير انقلاب 25 تشرين الأول (أكتوبر) 2021 وإطاحة الحكومة المدنية. غير أن الانقلاب وضع العسكر مجدداً في مواجهة شارع تغيّرت طبيعة تحركاته وأصبحت “لجان المقاومة” صاحبة الكلمة فيه، كما أنهم فقدوا ثقة الأحزاب المدنية وخسروا الدعم الخارجي الذي اجتذبته حكومة حمدوك، ونتيجة لكل ذلك استحال على العسكر تنصيب حكومة مدنية بديلة.
استغرقت الاتصالات والمساعي الداخلية والخارجية نحو عام قبل أن يتبلور لدى العسكريين اقتناع بضرورة ترك السلطة للمدنيين، فكان “الاتفاق الإطاري” الذي وقّع في كانون الأول (ديسمبر) 2022 وبوشر التفاوض على آليات تطبيقه على أمل توقيع الاتفاق النهائي مطلع هذه السنة، لكنه أرجئ شهراً بعد شهر بسبب عدم توصّل العسكريين إلى تفاهم على دمج القوى المسلّحة في “جيش قومي موحّد”. هنا بدأ الشقاق بين قائد الجيش عبد الفتاح البرهان وقائد قوات “الدعم السريع” محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وقبل ذلك كان الرجلان قد تفاهما قبيل تنحية البشير على أن يبقى “الدعم” قائماً ومستقلاً ومنسّقاً مع الجيش ومعفى من التبعية له، وهذا ما فسّر اختيار حميدتي نائباً للبرهان في المجالس الانتقالية. كان قائد “الدعم” دائم التوجّس من فلول نظام البشير داخل الجيش (أكثر من 800 ضابط مصنّفون من “الإخوان المسلمين” و”الدولة العميقة”)، ويبدو أن الحركة المسرحية لاعتقال عشرات الضباط والعسكريين الإسلاميين عشية انقلاب 2021 استهدفت خصوصاً نيل تأييد حميدتي للانقلاب، وقد فعل، لكنه أول من بادر لاحقاً إلى إعلان أن الانقلاب كان “خطأً”.
في ما بعد راح الرجلان يتنافسان في كل مجال: مد الخطوط مع القوى الدولية، التقرّب من القوى المدنية، استمالة الحركات المسلّحة والقبائل… فمع اتضاح أن الانقلاب كان ورطة للعسكريين بدأت مصالح الرجلين تتباعد، فتسابقا إلى إرضاء القوى الخارجية (الولايات المتحدة وإسرائيل) والعربية (السعودية والإمارات)، فيما راهنت مصر على العلاقة بين الجيشين (على خلفية الصراع مع إثيوبيا) حتى مع علمها بوجود اختراقات “إخوانية” للجيش السوداني. ورغم أن الدول المعنية بإيجاد حل سياسي للأزمة كانت تتعاطى تعاطيا رئيسيا مع البرهان، إلا أنها لم تستطع تجاهل الانطباع بأنه “ضعيف” وأنه محاط بمجموعة ضباط يطمحون للانقلاب عليه ما إن تسنح الفرصة، ولذلك يروّج الآن أن انتصار الجيش على “الدعم” في الاقتتال الحالي يعني “انتصار الإخوان”. أما حميدتي، فرغم سجله الأسود في دارفور كما في فضّ مذبحة الاعتصام الشعبي (حزيران/ يونيو 2019)، فاستطاع أن يستخدم نفوذه السلطوي والمالي، سواء بإشراك قواته في حربي اليمن وليبيا، أم لشراء الولاءات الداخلية، وأبدى تقارباً ملموساً مع القوى المدنية ومطالبها، فغدا رقماً عسكرياً وسياسياً صعباً في المعادلة.
الأكيد أن دمج القوى المسلحة عنى بالنسبة إلى حميدتي أن يصبح هو القائد، لا أن يذوب هو وقواته في قالب الجيش. لذلك صعب حلّ الخلاف بين الجيش الذي طرح أن يتم الدمج خلال سنتين ليتزامن مع الانتقال السياسي المدني والانتخابات المفترضة، وبين “الدعم” الذي تصوّر دمجاً يستغرق عشر سنين يصار خلالها إلى تنقية الجيش من العناصر الإسلامية. كان الحوار مستمراً بين الطرفين، لكن تحشيد “الدعم” قواته كشف استحالة التوفيق بين الاقتراحين، وما لبث حميدتي أن نفّذ حركة استباقية حاول فيها تحييد السلاح الجوي والسيطرة على مواقع استراتيجية، وفي المقابل اعتبر الجيش قواته “ميليشيا” واتهمه بـ”التمرّد” وصولاً إلى إعلان أن “لا تفاوض ولا حوار قبل حلّ قوات الدعم السريع وتفتيتها”…
نقلا عن النهار العربي