التطور الإنساني في عمومه يقوم على تكوين شيفرات أو Codes يجري التوافق عليها بين الجماعة أو الجماعات البشرية فتمثل نقلة كيفية في تقدمها وانتقالها من حالة إلى أخرى، من البدائية إلى الحداثة، ومن الفقر إلى الغنى، ومن التفكك إلى الوحدة، وهكذا أمور.
الأمر شائع في الأدب العالمي تحت اسم «التاريخ الكبير Big History» الذي يقدم فرصة فريدة للتعرف على تطور الكون كعملية واحدة تطورت منذ البداية عبر مليارات السنين من البداية الأولى المعروفة بالانفجار الكبير حتى فهم ما هو واقع الآن، ومنه إلى المستقبل القريب لكي نعرف الحالة الحالية للإنسان الذي جاء إلينا من خلال عملية منظمة للأمر مادةً كان أو فكراً. وقبل شهور صدر كتاب في القاهرة للدبلوماسي جمال أبو الحسن بعنوان «300000 عام من الخوف- قصة البشر من بداية الكون إلى التوحيد» ينتمي إلى هذه المدرسة، ويعالج التطور الإنساني من خلال مراحل تحددها ما يسميها «الأكواد» أو اكتشاف شيفرة مفيدة تبدأ بالشيفرة الأبجدية التي يسبقها مباشرةً كون الإنسان كباقي أركان المملكة الحيوانية يُصدر أصواتاً نابعة من غرائز طبيعية من خوف الطبيعة ذاتها، أو الخوف ممن هم أكثر شراسة، أو التنافس على الغذاء أو التكاثر الجنسي. لحظة الإلهام هنا هي بداية التواصل حينما يطلق على «الشجرة» اسماً يجري التوافق عليه بحيث تصير حقيقة موضوعية تسمى هكذا من مجموعة من البشر، وبعد ذلك تنفرج عنها مسميات لأنواع وثمار.
«شيفرة الأبجدية» جعلت التواصل بين البشر ممكناً، وباختصار وجدت الجماعة البشرية. وبمثل هذا المنطق توجد «شيفرة العدد»؛ فالأرقام من صفر إلى 9 لا تعني شيئاً في حد ذاتها إلا عندما نتحدث عن تفاحة واحدة، أو تفاحتين، وساعتها يكون للرقم والعدد معنى. وهكذا تكبر الجماعة من ناحية، وتزداد قدراتها أو طاقتها من ناحية أخرى، ومع كل شيفرة يجري فك أسرارها وتطويعها تتصاعد وسائل توافق الجماعة من دفن الموتى إلى الحرب. «الثورة الزراعية» عبّرت عن حالة قصوى من الشيفرات التي فُضت وجلبت طاقات جبارة لتنظيم عمليات الغذاء والري وإقامة إمبراطوريات كبرى.
الكتاب في حقيقته لم ينتهِ بعد، فهو يتوقف عند ظهور رسائل التوحيد الثلاث (اليهودية والمسيحية والإسلام)، ولكن ربما كان أهم ما فيه المنهج الذي يستخدمه في التطور الإنساني الذي يقوم على أسس «داروينية»، ولكنه لا يستبعد الإلهام الرباني خصوصاً في اللحظات الفارقة. ما يهمنا هنا في هذا المقام هو النظر في المرحلة التي نعيشها من النظام العربي الذي تعرض لهزات عميقة خلال المراحل التاريخية التي مرّت منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. ومن دون التغول كثيراً فيما يقرب من ثلاثة أرباع قرن فإن اللحظة الكبيرة والفارقة والقريبة نسبياً كانت تلك الأحداث الكبرى التي جرت خلال السنوات الأولى من العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين والتي سُميت الثورات أو الانتفاضات أو الهبّات، وفي الغرب عُرفت باسم «الربيع العربي». كانت الفترة متوافقة على أمر واحد هو أن ما كان قبلها لم يعد ممكناً أن يستمر على حاله أو يبقى في مكانه، وهي عادةً اللحظة التي يصبح فيها على البشر أن يبحثوا عن «شيفرتهم» التالية والتي تضعهم على طريق جديد. هذه اللحظة جرت في أوروبا في أعقاب الثورة الفرنسية والحروب النابليونية والتي بات بعدها على القارة أن تسير وفق «أكواد الثورة» أو «أكواد الإصلاح»، وهو طريق آخر يقوم على الاستخدام الأقصى للتقدم التكنولوجي في عملية التنمية الاقتصادية، والمراجعة الاجتماعية. كانت الثورة الصناعية الأولى قد بلغت أوجها، وظهرت التنظيمات الاجتماعية للنقابات والأحزاب، وجرى الاعتراف بالأقليات الدينية وتحقيق المساواة بينها، ووُضع الأمن الإقليمي في حماية «المنظومة الأوروبية أو Concert of Europe» التي ضمّت بريطانيا وروسيا وبروسيا والنمسا وفرنسا.
ورغم أن التاريخ لا يشهد على أمثلة متطابقة أو متماثلة، فإنه يدلنا على اتجاه وتوجهات يمكن الاستفادة منها في إضاءة الطرق التاريخية. العالم العربي مر بكثير من هذه اللحظات الفارقة بعد استقلال الدول العربية، وفورات الثورات والانقلابات العربية، وكثيراً ما كان جوهر الشيفرة الجديدة هي ما سُميت «القومية العربية» و«الأمة العربية» ذات الرسالة «الخالدة».
ما حدث فعلياً خلال العقود التي تلت أن فرقة الدول العربية وتأخرها عن ركب التقدم العالمي باتت هي ملمح التاريخ العربي في هذه المرحلة. أسباب ذلك ليس موضع الاهتمام الآن، ولكن ما يهمنا هو أن رد فعل ما سُمي الربيع العربي كان ممثَّلاً في ثلاث شيفرات مطروحة: الأولى جاءت من «شباب الثورة»، وهؤلاء كانت شيفرتهم استمرار الفوضى إلى أقصى مدى ممكن؛ والثانية جاءت من الإخوان المسلمين الذين ذهبوا إلى خلق طبعة عربية من النظام الإيراني؛ والثالثة ترتبت على هذه الأخيرة وبشيفرة كان إلهامها قادماً من أفغانستان وانتهت إلى إنشاء ما سميت «دولة الخلافة الإسلامية» على الحدود بين سوريا والعراق. الرابعة هي التي تهمنا لأنه اعتباراً من 2015 وضع عدد من الدول العربية «الإصلاح الشامل والمستدام» بوصفه منهجاً للعمل والحياة والتطور والتقدم.
في 11 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي نُشرت مقالاً في صحيفة «المصري اليوم» تحت عنوان «قوانين الإصلاح العربي»، أشرت فيه إلى مكوناته الأولى المتداخلة مع ما هي معروفة بالدولة القومية أو Nation State وهي التي كانت مستقرة في التقاليد العربية القديمة تحت اسم «الدولة الوطنية» تمييزاً لها عن دولة قومية موحدة سوف تولد يوماً ما. لم يكن الإصلاح ممكناً دونما العبور الكامل إلى الدولة القومية بهويتها الخاصة وإقليمها المحدد بصفة «الوطن»، والتي لا يزيغ بصرها تحت بيارق دينية وإنما تشترك جميع طوائفها في مشروع وطني واحد. ولما كان قيام الدولة القومية هي النقطة الأولى في مسيرة الحداثة والتغيير والتقدم، فإن دولاً عربية عدة دخلت في شيفرات عدة أو رؤى ممتدة من 2015 إلى 2030 والتي أخذت شكل مشروعات للبنية الأساسية وغيرها واسعة النطاق. والآن بعد الدخول في العام الثامن من هذه المسيرة فإن الدول التي شاركت فيها دون موعد أو اتفاق بدأت تشكل ثلاثة أنواع من العلاقات الدولية: أولها بعضها تجاه بعض من خلال التشاور أو التعاون في أمور بعينها. وثانيها التعامل المشترك مع القوى الدولية العظمى، وتَجسد ذلك في «القمة العربية الأميركية» في جدة، و«القمة العربية الصينية» في الرياض، والعمل المشترك في قمة المناخ «كوب27» في شرم الشيخ، وكأس العالم لكرة القدم في قطر. حدث ذلك كله بينما «الشيفرة الإصلاحية» لا تزال في بدايتها، وترجمتها إلى واقع أكثر غنى في علاقات الدول الإصلاحية بعضها ببعض، وبينها وبين دول وأقاليم العالم الأخرى، يحتاج إلى الكثير من التفكير في مدى التقدم الذي أحرزناه، ونوعيات العقبات إلى تقف في طريق الإسراع به والمشاركة في السبق العالمي، والتعامل لا يخلو من مفاجآت «الجائحة» و«الحرب الأوكرانية»!
نقلا عن الشرق الأوسط