سيناريوهات مستقبل الصراع العربي- الإسرائيلي – الحائط العربي
سيناريوهات مستقبل الصراع العربي- الإسرائيلي

سيناريوهات مستقبل الصراع العربي- الإسرائيلي



هو تساؤل مشروع يلح على ذهن كل من تابع أحداث غزة الأخيرة وحربها الدامية، وهو سؤال مطروح من الجانبين العربي والغربي معاً ويحظى باهتمام الدوائر الأميركية أيضاً وربما الإسرائيلية كذلك، الكل يتساءل: وماذا بعد؟

أمكن حتى الآن تفادي حرب إقليمية شاملة وحسبتها إيران بدقة وفضلت بالتأكيد مصالحها الوطنية على شعاراتها الإسلامية، وأدركت أن المعركة إذا حدثت فلن يكون لها حدود ولا لنتائجها سقف محدد، فالصراعات تعرف كيف تبدأ لكنها لا تدرك كيف تنتهي.

فطن “حزب الله” في حرب غزة الأخيرة للأخطار القائمة فلم يدخل المعركة ليفتح جبهة جديدة، لكنه أيضاً لم يتوقف عن المناوشات التي نسميها في العلوم العسكرية التقليدية بعمليات الكر والفر إثباتاً للوجود.

لقد حرصت الولايات المتحدة الأميركية بشدة على تفادي توسيع نطاق الحرب وحاولت الضغط على إسرائيل وعلى نتنياهو تحديداً بالتوقف عند مراحل معينة من التصعيد العسكري وتحمست للهدنة الموقتة، لكنها لم تتمكن حتى الآن من تثبيتها لفترات طويلة.

ما زالت الأمور غير بعيدة من حافة الهاوية بسبب التعنت الإسرائيلي الذي يمثله اليمين الديني ويجسده نتنياهو شخصياً، بحيث يبدو للجميع بما في ذلك واشنطن ولندن وباريس وبرلين وغيرها من العواصم الداعمة لرؤية إسرائيل بأن لا تكتفي بالثأر من قادة حركة “حماس” بل تسعى إلى القضاء كاملاً عليها، وهو أمر قد يستغرق سنوات طويلة.

الحركات ذات البذور الشعبية والطابع الديني لا يمكن الخلاص منها بين عشية وضحاها، فالأمر يستغرق في هذه الحالة جهداً ضخماً وقدرة على تغيير المفاهيم وتبديل الأفكار قبل أن تتمكن من تغيير الأوضاع على الأرض وتحويل الواقع إلى منظور مختلف، ولن يتأتى ذلك بغير تنشيط عملية السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل والدخول في مراحل متقدمة من التسوية السياسية حتى يعود الأمل إلى الشعب الذي اغتصبت إسرائيل أرضه ونزعت سيادته وتحاول حالياً قهر إرادته.

صمود الشعب الفلسطيني أمر يختلف عن قوة “حماس” وصلابتها، إذ إن الحركة ليست بحق هي كل ذلك الشعب المناضل، لكنها تستثمر من منطلق قومي وديني مشاعر ذلك الشعب وتراهن على معاناته، والأمر هنا يخضع لتنبؤات كثيرة لسيناريوهات المستقبل من دون أن يكون في ذلك رأي قاطع، فالأمور تتغير كل يوم بحيث يصعب التنبؤ بقرارات المؤسسة العسكرية الإسرائيلية واليمين المتطرف الحاكم ، إذ إن شهوة الانتقام ورائحة الدماء تفوح من السياسة الإسرائيلية وتؤكد أن الدوافع الانتقامية متأصلة في تكوين المسرح السياسي الإسرائيلي الذي يحاول أبطاله الوهميون تجسيد المخاوف الإسرائيلية واعتبار الحرب والإفراط في القوة نمطاً من أنماط حماية الأمن الإسرائيلي ولو جاء ذلك على حساب الدنيا كلها وأتسع نطاقه بحيث أصبح مهدداً للسلم والأمن الدوليين.

الأوضاع الحالية لا تبدو موقتة، إذ إن تداعياتها تركت آثاراً غائرة لدى الشعب الفلسطيني ولدى التطرف الإسرائيلي بل ولدى مئات الملايين في أنحاء العالم قبولاً أو رفضاً لسياسات إسرائيل العدوانية التي ما زالت تطبق نظريات العقاب الجماعي والتهجير القسري، بل ومحاولة العبث بالخريطة السياسية للدول المجاورة في ظل تفسيرات مغلوطة وأفكار مشوهة لا تترك للمستقبل رصيداً إيجابياً يمكن البناء عليه أو حتى الانطلاق منه.

لعلنا نذكر بعض الأفكار المتصلة بمستقبل ذلك الصراع الدامي الذي ترك بصمات أليمة على شعوب المنطقة التي تمزقها صراعات أخرى يمكن أن يستدعي بعضها البعض الآخر، فقد كانت الأحداث في شمال العراق إلى جانب الاندفاع الحوثي غير المحسوب هي كلها ظواهر جانبية لما يمكن أن يؤدي إليه التصعيد غير المدروس للمعارك الدائمة في الصراع العربي- الإسرائيلي الذي نسميه كما قال أبا إيبان وزير خارجية إسرائيل الأسبق إنه صراع الفرص الضائعة، وأفكارنا في هذا السياق تدور حول النقاط الآتية:

أولاً: إن حركة “حماس” مطالبة بأن تعيد حساباتها وأن تفكر بواقعية في مستقبلها وأن يتمكن مكتبها السياسي من تحويل الحركة من الجانب العسكري البحت إلى حركة سياسية أقرب إلى الحزب منها إلى القوة المسلحة.

وقد يري الكثيرون أن مثل هذا التصور ظالم للشعب الفلسطيني في ظل الظروف الصعبة التي يمر بها والاحتلال الجاثم على أرضه، وقد يقول قائل -ومعه الحق- إن مثل هذا التفكير الحالم لا يتحقق إلا مع المراحل المتقدمة من التسوية السياسية التي تعطي الفلسطينيين الحد الأدنى من مطالبهم المشروعة ولن يتحقق ذلك في القريب العاجل، وإن كان يحدونا الأمل في أن الخروج من المحنة الحالية سيدفع كافة الأطراف للتفكير الجدي في مستقبل يسوده حد أدني من التفاهم والإحساس بمسؤوليات العيش المشترك في هذه البقعة من العالم بعد معاناة طويلة واضطرابات شديدة دفع فيها الفلسطينيون واحدة من أغلى فواتير الدم في التاريخ المعاصر.

ثانياً: إن على عقلاء إسرائيل والمعتدلين منهم -وهم قلة- أن يقودوا تياراً جديداً يعترف بالحقوق الفلسطينية المشروعة ويأسس لحركة سياسية مختلفة برؤية جديدة تسمح بترتيبات أمنية مقبولة بين الجانبين، بحيث تؤدي في نهايتها إلى ميلاد دولة فلسطينية قد تكون منزوعة السلاح ولكنها تحظى بكل مظاهر السيادة الدولية والإقليمية والوطنية وتحظى باعتراف عالمي كامل ودعم مادي ضخم في البداية، لأن رفع المعاناة عن الشعب الفلسطيني وضخ المساعدات في شرايينه التي تصلبت عبر السنين هو أمر أصبح ملحاً. فالشعوب لا تشرب قطرة بقطرة ولا تأكل يوماً بيوم ولكنها تحتاج إلى أسس راسخة وقواعد ثابته تسمح للدولة الوليدة بالحياة في ظروف مواتية من الندية مع دول الجوار وفي مقدمتها الدولة العبرية، كما تسمح لها بأن تكون عضواً عاملاً في المجموعة العربية بحيث يصبح مفهوم التعايش المشترك فلسفة طوعية يقبلها الجميع.

ثالثاً: إن الأجواء العربية في مجملها تتحمل جزءاً من المسؤولية القومية تجاه القضية الفلسطينية وهي القضية العربية الأولى، وذلك أمر يجبر جميع الأطراف على توحيد الكلمة من أجل رفع المعاناة عن الشعب الفلسطيني، فلا بد من إقامة مؤتمر دولي تحضره الدول الخمس الكبرى في مجلس الأمن ويتم فيه التوصل إلى حد أدنى من التوافق بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي واضعين في اعتبارهم آخر التطورات في ذلك السياق.

ويجب أن لا يغيب عن وعي الجميع أن القيادة الفلسطينية الموحدة والقوية دولياً والمؤثرة في الشارع الفلسطيني تحتاج إلى الوجود وقد كان عرفات -بكل ما كان له وما كان عليه- رمزاً للشعب الفلسطيني وهو أمر لم يعد موجوداً بنفس الدرجة، فعلى الفلسطينيين أن يتناسوا خلافاتهم وأن يقفوا صفاً واحداً وراء قيادتهم وأن يبتعدوا عن عمليات الانضواء وراء قوى غير معنية، فالقضية الفلسطينية قضية دولية واضحة تعترف بها معظم دول العالم، ولن يتحقق للفلسطينيين ما يريدون إلا بالتماسك والتضامن واتباع أساليب جديدة غير المقاومة المسلحة واللجوء إلى سياسات ومبادرات يستمع إليها العالم بلغة جديدة وتفكير مختلف ورؤية واقعية تستوعب المتغيرات الدولية والإقليمية.

هذه محاولات أقرب إلى الاجتهادات والتفكير بصوت عالٍ في مستقبل المنطقة بعد الأحداث غير المسبوقة التي شهدتها خلال الأسابيع الأخيرة، دعونا نأمل في أن تسود الحكمة بين كافة الأطراف بعيداً من المزايدات والإحساس بالتعطش للدماء والمحاولات الخبيثة لتصفية القضية الفلسطينية، والتي صمدت لأكثر من ثلاثة أرباع قرن ولن تنتهي أبداً إلا بالحل العادل الشامل في وطن فلسطيني داخل دولة مستقلة بعاصمة في شرق القدس.

نقلا عن اندبندنت عربية