ملفات متداخلة:
سياسة أمريكية مزدوجة تجاه سوريا

ملفات متداخلة:

سياسة أمريكية مزدوجة تجاه سوريا



قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، في ٣ مايو الجاري، إن الإدارة الأمريكية تُجري اتصالات مكثفة مع سوريا ودول أخرى للإفراج عن الصحفي الأمريكي أوستن تايس، الذي اختُطف في أغسطس ٢٠١٢ أثناء تغطيته الاحتجاجات الشعبية ضد نظام الرئيس السوري بشار الأسد. وقد أكدت صحيفة “وول ستريت جورنال”، في اليوم ذاته، أن إدارة الرئيس جو بايدن جددت محادثاتها المباشرة مع النظام السوري لتحديد مصير الصحفي الأمريكي؛ على نحو يثير تساؤلات عديدة حول ما إذا كان هناك تحول في الموقف الأمريكي من الحوار مع النظام السوري في وقت أعربت فيه الإدارة الأمريكية علناً عن رفضها التقارب العربي والإقليمي مع الأخير، واحتمالات عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية.

فقد قالت وزارة الخارجية الأمريكية في بيان لها، في ٤ مايو الجاري، إن الولايات المتحدة لن تطبع العلاقات مع حكومة الرئيس السوري بشار الأسد، وإنها لا تدعم مساعي الحلفاء لتطبيع العلاقات مع النظام السوري، حتى يكون هناك تقدم سياسي حقيقي بما يتماشى مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم ٢٢٥٤، الذي يدعو إلى انتخابات حرة ونزيهة تحت إشراف الأمم المتحدة.

ومن الجدير بالذكر أن أوستن ليس الأمريكي الوحيد المختطف في سوريا، حيث هناك أمريكيون آخرون مختطفون منهم الطبيب الأمريكي السوري مجد كمالماز الذي اختفى بعد إيقافه في عام ٢٠١٧ بنقطة تفتيش تابعة للنظام السوري في دمشق.

دلالات عديدة

يطرح إعادة إدارة الرئيس جو بايدن تجديد المباحثات مع النظام السوري لتحديد مصير الصحفي الأمريكي المفقود أوستن تايس والأمريكيين الآخرين الذين اختفوا خلال مرحلة الصراع المسلح، بالتوازي مع رفض الانخراط في عملية تطبيع مع النظام، جملة من الدلالات، التي يتمثل أبرزها في:

1- تعزيز شعبية الرئيس قبل الانتخابات: مع قرب موعد الانتخابات الرئاسية التي ستجرى في نوفمبر ٢٠٢٤، وسعي الرئيس جو بايدن للفوز بفترة رئاسية ثانية، والتشكيك حول قدراته على إدارة مهام منصبه مع تقدم عمره ليكون أكبر مرشح في الانتخابات الرئاسية بتاريخ الولايات المتحدة، يحاول الرئيس تعزيز شعبيته المتراجعة بين الناخبين الأمريكيين بالاستثمار في الإفراج عن المعتقلين الأمريكيين في دول معارضة للولايات المتحدة، بعد النجاحات التي حققتها الإدارة في الإفراج عن نجمة كرة السلة بريتني جرينر التي احتجزتها موسكو لمدة ١٠ أشهر، والإفراج عن سبعة معتقلين أمريكيين في فنزويلا. ويبذل المبعوث الرئاسي لبايدن الخاص لشئون الرهائن روجر كارستنز، منذ إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، جهوداً لإعادة الأمريكيين المحتجزين في الخارج، ولا سيما صحفي “وول ستريت جورنال” إيفان جيرشكوفيتش الذي تحتجزه القوات الأمنية الروسية، وعدد من المعتقلين الأمريكيين في إيران، ولا سيما سياماك نمازي.

ويأتي انخراط الإدارة الأمريكية في مباحثات مع النظام السوري للإفراج عن أوستن متسقاً مع الجهود التي اتخذها الرئيس الأمريكي لحماية الأمريكيين في سوريا بعد تعرضهم لهجمات عسكرية من قبل جماعات موالية لإيران، والتي وصلت لاستخدام القوة العسكرية ضدهم أربع مرات في فبراير ويونيو ٢٠٢١، وأغسطس ٢٠٢٢، ومارس 2023، وكذلك التحركات الأمريكية المكثفة لإجلاء الرعايا الأمريكيين من السودان بعد تأجّج الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع.

2- الضغط على النظام لإخراج المليشيات: ما زالت واشنطن ترى أن أى تسوية سياسية للأزمة في سوريا لابد أن ترتبط بإخراج القوات الإيرانية والمليشيات الموالية لها والتي قامت إيران بتكوينها وتدريبها للانخراط في الصراع المسلح إلى جانب النظام السوري، فضلاً عن أنها ما زالت تعارض عدم التقدم في العملية السياسية التي تجرى بمقتضى القرار الأممي رقم 2254، مقابل استمرار الانخراط في مسارات أخرى خلال المرحلة الماضية، مثل مسار الآستانة بين روسيا وتركيا وإيران، والذي توازى مع جهود بذلتها روسيا وإيران من أجل تحسين العلاقات بين تركيا والنظام السوري.

3- الاعتماد على الاتصالات السابقة: لا يعبر حديث وزير الخارجية أنتوني بلينكن عن إجراء الإدارة الأمريكية اتصالات مكثفة بشأن الصحفي أوستن تايس، عن توجه جديد تتبناه الإدارة، حيث كشف تقرير صحيفة “وول ستريت جورنال” -السابق الإشارة إليه- نقلاً عن مسئولين في منطقة الشرق الأوسط مطلعين على ملف الاتصالات الأمريكية بالنظام السوري بشأن أوستن، أن مفاوضين أمريكيين عقدوا سلسلة من الاجتماعات مع مسئولين أمنيين وسياسيين في الحكومة السورية.

وكشف بيان لوزير الخارجية الأمريكي السابق مايك بومبيو، في ١٤ أغسطس ٢٠٢٠، في الذكرى الثامنة لفقدان أثر الصحفي الأمريكي، أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب سبق أن وجه، في مارس ٢٠٢٠، رسالة شخصية إلى الرئيس السوري بشار الأسد يقترح فيها فتح حوار مباشر مع النظام السوري وذلك للإفراج عن الصحفي المفقود في سوريا. ووفقاً لتقرير صحيفة “وول ستريت جورنال”، في ١٩ أكتوبر ٢٠٢٠، سبق أن التقى اثنان من كبار مسئولي إدارة ترامب، وهما: كاش باتيل نائب مساعد الرئيس ترامب، وروجر كارستنز المسئول عن مفاوضات الرهائن، سراً مع المسئول الأعلى بالمخابرات السورية لإجراء محادثات حول الأمريكيين المفقودين في سوريا. وكانت تلك المرة الأولى التي يسافر فيها مسئول في البيت الأبيض إلى دمشق.

4- تبني سياسة “القنوات الخلفية”: بجانب الانخراط الأمريكي المباشر مع النظام السوري لعودة الأمريكيين المحتجزين، استخدمت الإدارة قنوات خلفية لإجراء مباحثات مع نظام الأسد، فقد طلبت من رئيس المخابرات اللبنانية اللواء عباس إبراهيم التوسط مع النظام السوري للإفراج عن الصحفي الأمريكي. وقد سافر إبراهيم إلى واشنطن في مايو ٢٠٢٢، والتقى بوزير الخارجية أنتوني بلينكن ومدير وكالة الاستخبارات المركزية وليام بيرنز، إلى جانب روجر كارستنز المبعوث الرئاسي الخاص لشئون الرهائن قبل زيارته لسوريا للتوسط لإنهاء اعتقال الصحفي. وقد مارس إبراهيم، في عام ٢٠١٩، دوراً حاسماً في تحرير السائحين الكندي كريستيان لي باكستر والأمريكي سام جودوين من سجنهما في سوريا.

5- استمرار التباين بين واشنطن ودمشق: ما زال النظام السوري حريصاً على نفى اعتقال الصحفي الأمريكي، بينما يؤكد الرئيس الأمريكي جو بايدن أن الولايات المتحدة تعرف “على وجه اليقين” أن النظام يحتجز أوستن؛ وهو ما يمثل عقبة أمام استمرار المباحثات المباشرة وغير المباشرة بين الولايات المتحدة والنظام حول مصير المعتقلين الأمريكيين في سوريا، فضلاً عن طرح الأخير مطالب تتعارض مع السياسات الأمريكية المعلنة تجاه سوريا، على غرار تقليص حدة العقوبات الأمريكية والانسحاب الأمريكي من سوريا.

تحوّل ملحوظ

يكشف تعدد المحاولات الأمريكية المباشرة وغير المباشرة للإفراج عن الصحفي الأمريكي، والتصريحات والتحركات الأمريكية الأخرى خلال العامين الماضيين، عن تحول ملحوظ في الموقف الأمريكي تجاه الأزمة السورية. فعلى الرغم من المعارضة الأمريكية العلنية لمساعي حلفاء الولايات المتحدة لتطبيع العلاقات مع النظام السوري، إلا أن هناك موافقة ضمنية أمريكية على تلك الخطوات، وهو ما انعكس في تصريحات مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشئون الشرق الأدنى، باربرا ليف، في ٩ مارس الماضي، والتي قالت فيها: “إن رسالتنا الأساسية هي أنه إذا كنت ستتعامل مع النظام السوري فاحصل على شيء لذلك”، وهو ما يوحي بأن واشنطن باتت تتبنى سياسة مزدوجة للتعاطي مع التطورات التي يشهدها الملف السوري خلال المرحلة الحالية.