مسالك مختلفة:
سياسات الدول العربية لتعزيز الأمن الغذائي بعد حرب أوكرانيا

مسالك مختلفة:

سياسات الدول العربية لتعزيز الأمن الغذائي بعد حرب أوكرانيا



تصاعد الحديث في الأسابيع القليلة الماضية بشأن التداعيات الاقتصادية للحرب الروسية- الأوكرانية على قطاعات مختلفة في المنطقة العربية، ومنها القطاع الغذائي، من منظور الإنذار المبكر أو إدارة المخاطر، ولا سيما في ظل اضطراب سلاسل توريد الغذاء العالمية. وتتمثل تلك التداعيات على دول المنطقة في تزايد معدلات الفقر والجوع، واحتمال اندلاع الاضطرابات الاجتماعية، وارتباك الأسواق الداخلية، والضغط على الموازنات المالية الحكومية. ولعل ذلك يستلزم اتخاذ مجموعة من السياسات، ومنها شن حملات ضد محتكري السلع الغذائية، ومنع تصدير المواد الغذائية، والتخطيط لمخزون استراتيجي من الحبوب، والبحث عن الأسواق البديلة، وتفعيل استراتيجيات التنمية المستدامة، وتزايد المطالبة بإنشاء هيئة عامة لإدارة الطوارئ والكوارث، وزيادة التنسيق البيني العربي بما يُعزز المزايا النسبية لكل دولة التي تمكن من استيعاب ارتفاع أسعار المواد الغذائية، والالتفات إلى رؤى ودراسات اتحاد رجال الأعمال العرب.

تأثيرات انتشارية

إن هناك تياراً رئيسياً في الكتابات يرى أن ثمة تأثيرات انتشارية للغزو الروسي لأوكرانيا على الأمن الغذائي في المنطقة العربية، من نواحٍ عديدة، كالتالي:

1- تزايد معدلات الفقر والجوع: كشف الدكتور عبدالحكيم الواعر، مساعد المدير العام والممثل الإقليمي لمنظمة الفاو في منطقة الشرق الأدنى وشمال إفريقيا، خلال كلمته بجلسة إطلاق المبادرة العربية للقضاء على الجوع ضمن فعاليات الأسبوع العربي للتنمية المستدامة في 5 مارس الجاري، عن ارتفاع عدد من يعانون سوء التغذية في المنطقة العربية إلى 69 مليون شخص خلال عام 2020 بزيادة 4.8% مقارنة بعام 2019، ومن المتوقع ارتفاع العدد إلى 75 مليون شخص بحلول عام 2030، ولا سيما في ظل الأزمات الدولية.

ولفت الواعر إلى أن الزيادة الأخيرة لم تقتصر على بلدان النزاعات، وإنما امتدت أيضاً للبلدان الأكثر استقراراً، كما أن هناك 140 مليون شخص لم تتح لهم فرصة الحصول على الغذاء الكافي كماً ونوعاً. وأضاف الواعر أنه “من المتوقع تزايد العجز في توفير الغذاء نتيجة استمرار اتساع الفجوة بين الإنتاج الزراعي ومعدلات الاستهلاك في ظل تسارع معدلات النمو السكاني بدول المنطقة العربية”، مشدداً على ضرورة التحرك للتصدي للسياقات المحفزة للفقر والجوع، وتقوية التعاون والتنسيق بين الدول العربية لتحقيق الأمن الغذائي.

2– اندلاع الاضطرابات الاجتماعية: يرى بعض الباحثين والخبراء الاقتصاديين وخاصة العاملين في بعض المؤسسات الدولية كالبنك الدولي أن ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا قد يؤدي إلى تنامي الاضطرابات الاجتماعية، مثلما حدث في فترات سابقة خلال عامي 2007-2008، ثم برزت مجدداً في عام 2011، عندما ارتبطت أحداث شغب في أكثر من 40 دولة بارتفاع أسعار الغذاء العالمية، ومنها دول في المنطقة العربية والشرق الأوسط.

وفي هذا السياق، حذرت تحليلات مختلفة صادرة عن البنك الدولي، في فبراير الماضي، من أن التداعيات قد تكون قاسية على وجه الخصوص في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بل وجنوب الصحراء التي تعاني بالفعل من انعدام الأمن الغذائي. وهنا، أشارت تقارير صحفية، في 14 مارس الجاري، إلى أن العشرات من سكان محافظة المثنى في العراق قطعوا طريقاً دولياً في تظاهرة لليوم السادس على التوالي بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية وسوء الخدمات، ويطالبون بتحسين أوضاعهم المعيشية وتوفير الخدمات.

3– ارتباك الأسواق الداخلية: وهو ما حدث في معظم الدول العربية، إذ تشهد ليبيا منذ اندلاع الحرب الروسية- الأوكرانية نقصاً في إمدادات بعض السلع الغذائية، على رأسها القمح ومشتقاته، مما أدى إلى إغلاق عشرات المخابز ودفع البلاد للمطالبة باستثنائها من قرارات بعض الدول بحظر تصدير هذه السلع، وعلى رأسها تركيا وتونس، وذلك لمنع وقوع أزمة إنسانية محتملة في حالة توقف استيراد بعض السلع، خاصة مع اقتراب شهر رمضان، وتراجع مخزون البلاد من السلع الغذائية المختلفة.

4- الضغط على الموازنات المالية الحكومية: نظراً إلى أن روسيا وأوكرانيا تعدان من أكثر الدول المصدرة للحبوب والقمح إلى العديد من الدول العربية، فقد أدت الأزمة والحرب إلى ارتفاع في أسعار التعاقدات بنسب تتراوح ما بين 11 إلى 20 في المائة حتى مايو المقبل، وربما تزيد في فترات لاحقة، الأمر الذي يلقي بتأثيرات على الموازنات المالية للحكومات العربية، التي تعاني بدورها من عجز في تلك الموازنات، بخلاف مواجهة أزمات ملحة نتيجة التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية لكوفيد-19. وربما يستثنى من ذلك حالة دول مجلس التعاون الخليجي ولا سيما بعد ارتفاع أسعار النفط وتعديها حاجز 100 دولار لأول مرة منذ عام 2014.

إجراءات متعددة

هناك مداخل أو سياسات عديدة اتخذتها أو تتجه إلى تبنيها عدة دول عربية لاحتواء التداعيات الاقتصادية للحرب الروسية- الأوكرانية على الأمن الغذائي في المنطقة، يتمثل أبرزها في:

1- شن حملات ضد محتكري السلع الغذائية: قال الرئيس التونسي قيس سعيّد في مقطع فيديو نشرته الرئاسة التونسية، في 9 مارس الجاري: “إنها حرب دون هوادة ضد المحتكرين المجرمين في إطار القانون”، مضيفاً خلال اجتماع مع وزير الداخلية توفيق شرف الدين وقيادات أمنية أن “عمليات الاحتكار بفعل فاعل.. وهي سعي لضرب السلم الاجتماعي والأمن في المجتمع”. وقد عمل الرئيس سعيّد على إعداد مشروع مرسوم رئاسي لمواجهة الاحتكار في المواد الغذائية ومسالك توزيعها، والتي وصفها الرئيس سعيّد بـ”مسالك تجويع”، ويتضمن عقوبات تصل إلى السجن.

ودعت وزيرة التجارة التونسية فضيلة الرابحي إلى تفعيل أقصى العقوبات العدلية والإدارية ضد كل من تسول له نفسه المساس بالقدرة الشرائية للتونسيين في انتظار استكمال استصدار ونشر المرسوم الرئاسي المتعلق بمسالك توزيع المواد الفلاحية ومنتجات الصيد البحري، وذلك لتشديد العقوبات الرادعة للمحتكرين والمضاربين والمتلاعبين بالسوق. كما طالب رئيس الوزراء المصري د. مصطفى مدبولي، في مؤتمر صحفي بتاريخ 3 مارس الجاري، بـ”ضرورة التعامل بحسم مع أي ممارسات غير مقبولة من بعض التجار الجشعين”.

2- منع تصدير المواد الغذائية: اتخذت بعض الدول العربية قرارات للحد من ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وما يرتبط بها من موجات تضخم. وفي هذا السياق، قررت وزارة التجارة والصناعة المصرية حظر تصدير بعض السلع الاستراتيجية مثل الفول الحصى والمدشوش، والعدس، والقمح، والدقيق بجميع أنواعه، فضلاً عن المعكرونة بأنواعها، وذلك لمدة ثلاثة أشهر، اعتباراً من 11 مارس الجاري. كما وجه الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون خلال ترؤسه اجتماع مجلس الوزراء، بتاريخ 14 مارس الجاري، بمنع تصدير كل ما تستورده الجزائر من منتجات استهلاكية، كالسكر والمعجنات والزيت والدقيق، وكل مشتقات القمح، والتأكيد على مواصلة منع استيراد اللحوم المجمدة منعاً باتاً، وتشجيع استهلاك اللحوم المنتجة محلياً، وكلف تبون وزير العدل بإعداد مشروع قانون يجرم تصدير المواد غير المنتجة محلياً باعتباره عملاً تخريبياً للاقتصاد الوطني.

3- البحث عن الأسواق البديلة: في حال استمرار إغلاق الموانئ الأوكرانية وتوقف التصدير منها لفترة معينة، فضلاً عن اعتبار شركات الشحن البحري أن الموانئ الروسية تعد “مناطق صراعات”، على نحو يؤدي إلى زيادة رسوم التأمين على السفن، وهو ما يعكس التكاليف الإضافية؛ فإنه يتعين على الدول العربية التي تستورد حبوباً منها، مثل القمح والذرة وزيوت الطعام، البحث عن سوق بديل، وهو ما ينطبق على مصر ولبنان ودول مجلس التعاون الخليجي. وهنا تتصاعد الدعوات في عدد من البلاد العربية إلى استيراد القمح الروماني والفرنسي والبرازيلي والأرجنتيني والبولندي والألماني والليتواني.

4- التخطيط لمخزون استراتيجي من الحبوب: تعمل بعض الدول العربية على الاستيراد السريع من الخارج لتأمين احتياجاتها الغذائية، وهو ما ينطبق على حالة العراق، إذ قال وزير التجارة علاء الجبوري، في 7 مارس الجاري، إن العراق سيدعم وزارة التجارة لتهيئة مخزون استراتيجي من القمح باستيراد 3 ملايين طن منه، وتخصيص 100 مليون دولار للشراء العاجل، مضيفاً: “الوزارة لديها خطة لتحقيق الأمن الغذائي للمواطنين، ومواجهة الارتفاع العالمي للمواد الغذائية الذي فرضته الأزمة الأخيرة بين روسيا وأوكرانيا”.

5- تفعيل استراتيجيات التنمية المستدامة: ولعل ذلك ينطبق على مصر، إذ تضمنت استراتيجية التنمية المستدامة “رؤية مصر 2030” عدة أهداف ذات صلة مباشرة بتعزيز الحق في الغذاء، وأهمها زيادة الرقعة الزراعية، وزيادة الإنتاج الزراعي، وتحقيق الاكتفاء الذاتي من عدد من السلع الاستراتيجية، وحماية الأراضي الزراعية، وتطوير التكنولوجيا الزراعية، وإنشاء تجمعات للصناعات الزراعية، ومراعاة البعد البيئي، والتوجه نحو الزراعة المستدامة، وتنمية الثروة الحيوانية والداجنة والسمكية.

6- إنشاء هيئة عامة لإدارة الطوارئ: دعا بعض نواب مجلس الأمة الكويتي، في 7 مارس الجاري، إلى إقرار قوانين لإنشاء هيئة عامة لإدارة الطوارئ والأزمات والكوارث، وذلك خلال جلسة عقدها مجلس الأمة لمناقشة تطورات الحرب الروسية-الأوكرانية وتداعياتها على المنطقة العربية، من الناحية السياسية والاقتصادية والأمنية والبيئية. وتضمنت التوصيات المطالبة بتطوير وتوسعة منظومة تخزين الغذاء وصوامع الحبوب، وتوفير كميات من الأدوية المعالجة للتسمم للتعامل مع أي تلوث إشعاعي محتمل.

7- زيادة التنسيق البيني العربي: وهو ما برز في سلوك كل من العراق والأردن، إذ بحث رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي مع وزير الصناعة والتجارة الأردني يوسف محمود الشمالي والوفد المرافق له، في 9 مارس الجاري، سبل تطوير العلاقات بين بلديهما وتعزيز التكامل والتنسيق الثنائي والإقليمي، ولا سيما فيما يتعلق بالأمن الغذائي ومواجهة ارتفاع أسعار المواد الغذائية عالمياً. ولعل تلك الزيارة تأتي في سياق زيادة تعاون العراق والأردن ومصر فيما يطلق عليه “الشام الجديد” من خلال التركيز على دعم معدلات التبادل التجاري في مجالات الطاقة والاستثمار والنقل.

وقد أكد العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، في 9 مارس الجاري، أهمية التكامل بين الدول العربية، لافتاً إلى الجهود التي تُبذل في هذا السياق لزيادة التنسيق والتعاون بين المملكة وعدد من دول الجوار، وهو ما سينعكس إيجابياً على توفير الفرص الاقتصادية والحد من الفقر والبطالة، ولفت إلى أن مستويات مخزون القمح في الأردن “آمنة”، والعمل جارٍ على تعزيزها وزيادتها، مؤكداً أهمية بذل الجهود للخروج بأقل الخسائر من تبعات الأحداث بأوكرانيا على الاقتصاد الأردني “بالتنسيق مع الأشقاء العرب”، وخاصة فيما يتعلق بأسعار الطاقة.

وعبّر عن هذا المعنى أيضاً وزير الخارجية اللبناني عبدالله بوحبيب، في 9 مارس الجاري، خلال الدورة العادية لمجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري بصفته رئيساً للدورة الحالية، حيث قال إن “وقوع هذه الحرب على هذا النحو يُشير إلى أننا في قلب مخاض نظام عالمي جديد قيد الانبثاق، وينبغي أن يكون لنا كدول عربية دور في صياغته ورسم معالمه من موقع الشراكة الفعلية لا الاسمية. ومن أجل النجاح في ذلك، لا نحتاج إلا إلى توفر الإرادة الجادة، مشفوعة بتسريع الخطى من أجل استعادة وحدة الموقف العربي الحقيقي والممكن، بما يؤهلنا للدور الذي يليق بنا بين الأمم”.

وأضاف بوحبيب: “لا شكّ أن التداعيات الاقتصادية للحرب قد تكون الأقوى تأثيراً على شعوب العالم، بما في ذلك منطقتنا، ابتداء من أزمة الطاقة والغذاء وارتفاع أسعارها عالمياً. ويتطلب هذا الأمر مزيداً من التنسيق والتعاون فيما بيننا من أجل تأمين الحد الأدنى من مقومات الأمن الغذائي والطاقوي لكل من دولنا، فلم نعد نملك ترف التفرج على مزيد من الأزمات في الوقت الذي تنتظر فيه شعوبنا أن ننجح في معالجة ما هو مستعرٌ منها”. ودعا بو حبيب إلى “التعاون من أجل لمّ كامل الشمل العربي ضمن إطار الأسرة العربية الواحدة التي تجسدها جامعة الدول العربية، وتشكل استعادة سوريا إليها واستتباب الأمن والسلام في كل قرية من عالمنا العربي، عنوان نجاح أكيد”، مشدداً على أن “وحدتنا هي شرط ضروري لفعاليتنا على الصعيدين الإقليمي والدولي وللحفاظ على موقعنا بين الأمم”.

8- الالتفات إلى رؤى ودراسات اتحاد رجال الأعمال العرب: يمكن للدول العربية الاستعانة بجهود القطاع الخاص، سواء على المستوى الوطني أو الإقليمي، للحد من تأثيرات الحرب الأوكرانية على أمنها الغذائي. وقد أعدّ اتحاد رجال الأعمال العرب (الذي يتخذ من الأردن مقراً له) ورقة على هامش التحضير لعقد الاجتماع الدوري الـ55 للاتحادات العربية المتخصصة الذي سيعقد في 23 مايو المقبل في نواكشوط، والتي ركزت على الأمن الغذائي باعتباره أحد الملفات التي يُوليها الاتحاد اهتماماً خاصاً، ورفع التوصيات والمقترحات لأصحاب القرار بشأنها، لحرصه على ذلك باعتباره إحدى مؤسسات العمل العربي المشترك.

ويعد من أبرز الأفكار التي طرحت في هذا السياق ضرورة التنسيق بين الدول العربية في عملية الاستثمار في القطاع الزراعي، خاصة في الدول العربية التي تتوفر فيها البنية المناسبة، مثل السودان، من حيث مساحة الرقعة الزراعية الواسعة، والعمل على توفير البنية التحتية اللازمة للاستفادة من استغلال الفرص الزراعية المتوفرة، والربط المباشر بين الأمن الغذائي والأمن المائي، ومواجهة التحديات المرتبطة بالمياه والآثار السلبية للتغير المناخي في إطار جماعي، مع تخصيص مبالغ كافية للإنفاق على البحث والتطوير في مجال المياه والزراعة والغذاء، وإقامة بنية لوجستية وترتيبات مؤسسية في مجال التخزين الجماعي للحبوب وما يرتبط بذلك.

مداخل متوازية

خلاصة القول، إن تأثيرات الحرب الروسية- الأوكرانية تفرض على الدول العربية اتخاذ سياسات متوازية تحقق مصالحها الوطنية، ومنها محاولة زيادة إنتاجها من الغذاء بصورة دورية، وتنويع وتعدد مناشئ استيراد القمح والحبوب، وشن حملات متواصلة ضد المتلاعبين بالأمن الغذائي، والاستمرار في منع تصدير المواد الغذائية والسلع الاستراتيجية، وتعزيز التنسيق فيما بين الدول العربية لمنع تكرار تداعيات مستقبلية قد تهزّ الاستقرار الداخلي في لحظةٍ ما.