في الوقت الذي يواجه فيه ملف التعليم باليمن تحدياً هائلاً على خلفية استمرار الأزمة في البلاد، علماً بأن أحدث الإحصائيات تشير إلى تنامي نسبة الأمية في البلاد، والتي تتوزع ما بين 70% في المناطق الريفية و30% في الحضر، في ظل تسرب ثلث الطلاب المفترض أن يلتحقوا بالتعليم من إجمالي 6 ملايين طالب على مستوى البلاد بحسب تقديرات الأمم المتحدة، فضلاً عن مشكلات البنية التعليمية بالإضافة إلى معاناة قطاع المدرسين؛ فإن المليشيا الحوثية لجأت إلى التعليم البديل عبر ما يسمى بالمدارس الصيفية التي استقطبت العام الجاري نحو أكثر من مليون طالب، لتعبئتهم أيديولوجياً وعسكرياً، وهو ما يُعادل ضعف العدد الذي انضم إلى هذه الدورات العام الماضي.
تعليم بديل
من المتصور أن التعليم الموازي في مناطق النفوذ الحوثي يأتي في سياق المشروع الحوثي العام الخاص بترسيخ الثقافة الطائفية السلالية للمليشيا، مع الأخذ في الاعتبار أن معظم القاعدة الاجتماعية بالإضافة إلى الهيكل القيادي للمليشيا لم يحصلوا على التعليم التقليدي، وأغلبهم حصل على تعليم بدائي في “المدارس الدينية” إن جاز التعبير. وبعد هيمنة المليشيا على مناطق واسعة من شمال البلاد لم تهتم بالتعليم، قدر اهتمامها بالمشروع الطائفي الذي يعتمد بشكل رئيسي على “المسيرة القرآنية” والإرث الذي تركه المؤسس الفعلي حسين بدر الدين الحوثي من “الملازم” الدينية.
ولا تقتصر المناهج على الفقه الديني الخاص بالمليشيا، لكنها تنطلق منه إلى ما يتعلق بالشأن العام الداخلي والخارجي، من حيث تشكيل الذهنية العامة بأن اليمن محاط بالأعداء القريبين والبعيدين، بالإضافة إلى العداء الداخلي لنظام الجمهورية الذي أطاح بنظام الإمامة في عقد الستينيات من القرن الماضي، وتمجيد من ينتمون إلى الحقبة الإمامية. وعلى المستوى الهيكلي لهده الدورات، فإنها لا تقتصر على البنين وإنما تشمل أيضاً الفتيات، وتدرس العديد من الكتب عبر دورات تمتد إلى من شهرين إلى ثلاثة أشهر، بالتوازي مع التعبئة الأمنية من خلال عروض الكشافة التي تقام تحت إشراف عسكري في المناطق المختلفة.
أبعاد هيكلية
لا يقتصر عمل هذه الدورات على دور وزارة التعليم التابعة لحكومة المليشيا الحوثية في صنعاء، والتي يتولاها يحيى الحوثي شقيق زعيم المليشيا عبد الملك الحوثي، مما يؤكد على مدى الاهتمام الحوثي بهذا المشروع كأولوية في مشروع الحركة بشكل عام؛ لكنه يمتد أيضاً إلى دور وزارة دفاع المليشيا الذي تقوم به ما تسمى لجان “التعبئة والحشد” والتي تتولى عملية فرز الطلاب لاختيار من يمكن تأهيلهم للالتحاق بدورات عسكرية مستقبلاً بالكتائب العسكرية التابعة للمليشيا.
ولا يمتلك الحوثيون مدارس للحوزة الدينية على غرار وكلاء إيران الأخيرين في العراق ولبنان وحتى سوريا، على الرغم من التقارب المذهبي مع إيران، وتأثير تعليم الرعيل الأول من الحركة في قم، لكن تأثير هذه المدارس يشكل بالتدريج النمط الخاص من التأهيل المذهبي للمليشيا الحوثية، الذي يحمل جانباً من هذه الملامح على نحو ما يرد في مناهج تعليم الأذان والصلاة، وبالتبعية تآكل “الزيدية” التقليدية التي يعرفها اليمن في ظل السياسات الحوثية، وهي ليست طائفية بالمعنى المتعارف عليه، وهو خطر أكبر يهدد هوية التسامح والتعايش التي رسختها المذاهب التقليدية تاريخياً في اليمن ما بين الزيدية والشافعية.
الحرب الثقافية
يشير تزايد الاهتمام الحوثي بهذه الدورات عاماً تلو الآخر بعد انقلابها على الشرعية إلى أن مشروع التمكين لا يقتصر على السلاح، بينما حرب العقول ستكون هي المعركة الأكثر شراسة في بلاد لديها هوية واضحة رغم الانكسارات والأزمات التي تتعرض لها، لتكوين وتشكيل عقيدة الأجيال التي يتعين عليها أن تحمل هذا المشروع، مع الأخذ في الاعتبار أنه عندما اندلعت الحرب في اليمن فإن من خاضوا هذه الحرب هم من ينتمون لجيل الوسط ما بين العقدين الثالث والرابع من العمر، وبالتالي هناك طاقة للعمل على هذا المشروع. وفي ظل حالة العوز والتعبئة الإجبارية، فإن الأسر اليمنية في مناطق النفوذ الحوثي مضطرة إلى إرسال أبنائها إلى تلك الدورات الطائفية، بغض النظر عن موقفهم من الولاء أو المعارضة للحوثيين. فقد انطلق هذا المشروع من صعدة إلى صنعاء وأغلب مناطق السيطرة التي تقترب من ثلث مساحة البلاد الآهلة من الناحية الديمغرافية.
وتركز العديد من التقارير المحلية على تعدد الأعراض الناجمة عن سياسة الالتحاق الإجباري بالدورات الصيفية، على غرار التصدع الاجتماعي والأسري جراء تداعيات هذه الجرعة الأيديولوجية. فعلى سبيل المثال، رصدت تقارير محلية رد فعل بعض الطلاب العنيف تجاه أسرهم، على غرار اتهام الأبناء لآبائهم بالجهل، وأن عدم الولاء للحوثي يقابله الانتماء لتنظيم “داعش” فكرياً.
تحدٍّ مستقبلي
يبدو أن هناك تناقضاً ما بين استمرار هذا المشروع والاتجاه لتسوية الأزمة اليمنية في المرحلة الحالية، وهو ما يعكس دلالة أخرى تتمثل في أن المليشيا ليس لديها توجه لتصفية هذا المشروع ضمن عملية التسوية، وبشكل استباقي تعمل على تعزيزه، وربما عدم إدراجه كملف على طاولة التفاوض في المستقبل، ويمتد هذا التحدي إلى المستقبل، من حيث تباين الهويات في البلاد التي مزقتها الحرب، في حين أن الحرب الثقافية -وهي حرب من طرف واحد- تضع الحكومة الشرعية في مأزق، حيث تتعاطى مع الأمر بموقف رد الفعل المحدود بإطلاق البيانات والتحذيرات تجاه هذا المشروع، وذلك بحكم كونها لا تمتلك أدوات مقاومته.
في السياق ذاته، من الأهمية بمكان النظر إلى ما تتعرض له الهوية التاريخية في اليمن، ولا سيما في المركز (صنعاء)، وأبرزها المشروع الحوثي لإحلال مشهد طائفي محل صنعاء القديمة، وانعكاساته على الثقافة العامة، مع تنامي الاهتمام الحوثي بالأضرحة وإعادة تشييد مقامات الأولياء، لتجسيد هذه الثقافة واقعياً ومادياً على أرض الواقع، ثم التمدد إلى العامل الاقتصادي، مع تقنين الحوثيين لـ”الخُمس”. وبغض النظر عن الجدل الديني، فإن هذا التقنين يشكل عامل ثراء سلالياً غير مسبوق، ويعيد تشكيل النخبة الاقتصادية في شمال البلاد لصالح الحوثيين، وهي نخبة تتحكم في ثروة طائلة في الأصول.
إجمالاً، يمكن القول إن هيكل ميزان القوة الحوثية ينطوي على عامل التعبئة الثقافية والأمنية لأجيال من النشء يتربون على ثقافة الولاء السلالي للحوثي، وليس فقط مجرد الطاعة العسكرية لمد جبهات الحرب. فإذا قبلت المليشيا الحوثية 10% من المنتمين لدورة واحدة فسيكون لديها ما يقارب 150 ألف مجند من دورة واحدة، مع الأخذ في الاعتبار أن عملية غسيل أدمغة الفتيات لا تقل خطورة في إمداد مليشيات نسائية (زينبيات وفاطميات) بالمزيد من الأعضاء، وهؤلاء لديهم دور آخر في الجبهة الداخلية، لا يقتصر فقط على زمن الحرب.
وبالإضافة إلى التحديات الأمنية والسياسية التي تمت الإشارة إليها بالنظر لتداعيات هذا المشروع على مستقبل اليمن، فإن التحديات الثقافية والاجتماعية في إطار نهج الحوثي القائم على إعادة تشكيل المجال العام بهذه الأدوات سيكون من الصعوبة بمكان تفاديها في المستقبل لاستعادة تلك الأجيال، خاصة وأن مشروع التسوية السياسية قد لا يحد من هذه الظاهرة، بالإضافة إلى صعوبة تولي المنظمات الدولية ممارسة دور في هذا السياق.