سقوط المسلمات في الشرق الأوسط – الحائط العربي
سقوط المسلمات في الشرق الأوسط

سقوط المسلمات في الشرق الأوسط



أصارح العزيزات والأعزاء من قراء هذه الصفحة بأن تدريسى للأوضاع السياسية فى الشرق الأوسط كان سهلا جدا فى الماضى القريب.

كانت خريطة القوى الإقليمية واضحة ومستقرة. كان الوطن العربى هو قلب التفاعلات فى الشرق الأوسط، وكانت الدول غير العربية فى هذا الإقليم مثل إيران وتركيا وإسرائيل تقف متفرجة على ما يجرى فيه، وعندما كانت التحولات فى نظم الحكم فى بعض دوله أو بعض سياساتها تنذر بتهديد مصالح هذه الدول الثلاث، كانت تلجأ للولايات المتحدة لتوقف مثل هذه التحولات أو لاحتواء آثارها. وهكذا تدخلت الولايات المتحدة لإعادة حكم الشاه فى إيران فى سنة ١٩٥٣ بعد أن أممت حكومة مصدق شركات البترول العاملة فيها، ومارست الضغوط على بريطانيا وفرنسا وإسرائيل لوقف هجومها على مصر فى ١٩٥٦ والذى كان يهدد بتوسع الوجود السوفيتى فى الإقليم، وعادت الولايات المتحدة ومعها بريطانيا للتدخل العسكرى فى لبنان والأردن فى ١٩٥٨ للحيلولة دون سقوط حكومتين مواليتين للولايات المتحدة وللغرب فى هذين البلدين. وكانت القوى الإقليمية الفاعلة فى الشرق الأوسط معروفة ومستقرة، مصر والسعودية هما قطبا ما سمى فى الخمسينيات والستينيات فى القرن الماضى بالحرب الباردة العربية، وساندت السعودية مصر وسوريا فى حرب أكتوبر ١٩٧٣، وبعد إبرام الحكومة المصرية معاهدة سلام مع إسرائيل فى مارس ١٩٧٩، سعى صدام حسين فى العراق ليكون قائد الأمة العربية، خلفا لمصر التى تخلت عن دور الزعامة تدريجيا بعد رحيل جمال عبدالناصر فى سبتمبر ١٩٧٠. القوى الإقليمية كانت معروفة، والقوى الخارجية صاحبة النفوذ الأكبر فى الشرق الأوسط كانت معروفة بدورها. فى ظل هذه الظروف كان تدريس مقرر عن الأوضاع السياسية فى الشرق الأوسط لا يمثل اجتهادا كبيرا، بل ولم يكن من الصعب التنبؤ بمستقبل الأوضاع فى الإقليم، فهو كان الأكثر استقرارا فى العالم، مقارنة بأفريقيا جنوب الصحراء، أو أمريكا اللاتينية أو حتى جنوب وجنوب شرق آسيا.

لم يعد هذا هو الحال منذ أحداث ثورات الكرامة العربية فى شتاء ٢٠١١، لم تعد دول الجوار الآسيوية والأفريقية تقف موقف المتفرج مما يجرى فى الوطن العربى فلكل من إيران وتركيا وجود عسكرى فى أكثر من دولة عربية، ونفوذ واسع فى دول عربية أخرى، وإسرائيل فوق احتلالها لأراض فلسطينية فى الضفة الغربية وغزة وهضبة الجولان لا تتردد فى شن الغارات بل والحرب على أى من الدول العربية التى يرى قادتها أنها تهدد أمنها، أو يجدون فى مثل هذا النشاط العسكرى تعزيزا لمكانة بعضهم فى الصراعات السياسية داخل إسرائيل، وهكذا كان لبنان وسوريا والعراق وتونس مسارح لهذه المغامرات العسكرية الإسرائيلية، ولم تجد الحكومة الإثيوبية ما يدعوها للتردد فى إقامة سد على نهر النيل الأزرق وتعليته ثلاث مرات على الرغم من الضرر الذى يلحقه ذلك بالدولتين العربيتين اللتين تعتمدان بدرجة كبيرة على تدفق المياه فى ذلك النهر، وكانت إحداهما توصف بأنها زعيمة العالم العربى. وتوارت الدول العربية الأخرى التى تطلعت لقيادة العالم العربى بعد جمال عبدالناصر، واحدة منهما وهى سوريا تعانى احتلالا عسكريا معاديا من دولتين فى الإقليم وهما تركيا وإسرائيل، وتستضيف احتلالا عسكريا صديقا من جانب دولة إقليمية وهى إيران، ووجودا عسكريا معاديا تقوده الولايات المتحدة مع قوات حليفة، ووجودا عسكريا صديقا من جانب روسيا، ولا تستطيع فرض نفوذها على مساحات واسعة فى شمال أراضيها بسبب وجود فصائل معادية ينتمى أفرادها إلى عشرات من الدول ربما من كافة قارات العالم وتحظى برعاية تركية. والثانية وهى العراق لم تنجح تماما فى القضاء على مثل هذه الفصائل، ولكنها تتعايش مع قوى سياسية وفصائل مسلحة تدين بالولاء لجارتها إيران، ولا تنعم حكومتها بأى استقرار بسبب خلافات لا تهدأ ليس مع خصومها ولكن مع حلفائها الأقربين. ولا يعنى ذلك أن الوطن العربى يخلو فى الوقت الحاضر من دول تتطلع للزعامة، فهناك المملكة العربية السعودية، وهناك دولة الإمارات، وكذلك دولة قطر، كلها تتطلع للزعامة خارج حدودها، ولكنها على عكس الزعامات المصرية أو السورية أو العراقية التى كانت تتطلع لزعامة الشعوب العربية باسم القومية العربية التى تدعى أنها خير المدافعين عنها، لا تربط أى من هذه القيادات الخليجية نشاطها الخارجى بأى عقيدة سياسية، قومية عربية أو دعوة إسلامية، ولكن بالمصالح كما تراها هذه القيادات.

وقد لحق التغيير فى الخريطة السياسية للشرق الأوسط تواجد القوى الخارجية الفاعلة فيه. لم يعد الشرق الأوسط حديقة خلفية لدول غرب أوروبا وتحديا لبريطانيا وفرنسا اللتين شاركتا فى احتلال دوله، بل ولم يعد كذلك مسرحا لتجارب الرؤساء الأمريكيين من أحلاف عسكرية إلى برنامج للشراكة أو هدف لحملة نشر الديمقراطية حتى بالسلاح، بل لقد أعلن رئيس أمريكى فقدان الاهتمام بالشرق الأوسط لصالح إقليم شرق آسيا، وأتبع ذلك بجلاء القوات العسكرية الأمريكية عن العراق، وعندما عاد رئيس أمريكى آخر لتأكيد الاهتمام بالشرق الأوسط مدركا أن سعر برميل النفط فى الولايات المتحدة يحدد بفرص فوز حزبه فى انتخابات تشريعية نصفية فوجئ بأن أقرب حلفائه فى الشرق الأوسط لا يستمعون لنصيحته، ويرفعون سعر النفط فى تعاون وثيق مع واحد من أشد خصومه على الصعيد الدولى، كما فقدت الولايات المتحدة القدرة على المبادرة فى تسوية النزاعات الداخلية فى الإقليم، أيا كانت هذه المنازعات سواء بين الجانبين الإسرائيلى والفلسطينى أو بين الجانبين السعودى والإيرانى، وتركت هذا الدور طواعية لحكومة صديقة مثل الحكومة المصرية، أو فوجئت بأن خصمها الأكبر على الصعيد العالمى وهو الصين هو الذى يقوم بهذا الدور.

لماذا تغيرت الخريطة؟

شهدت الخريطة السياسية للشرق الأوسط صعودا لقوى إقليمية وعالمية، وهبوطا لقوى أخرى، شهدت صعودا لقوى بعض الدول الخليجية وكل دول الجوار، وهبوطا للقوى التى كانت تسعى للزعامة فى الوطن العربى بدعوى الدفاع عن القومية العربية أو اتساقا مع ما سمته بدور تاريخى، وشهدت هبوطا لنفوذ كل القوى الغربية بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية وصعودا لنفوذ كل من الصين وروسيا. من المفيد أن نستكشف أسباب هذا التغير، ومدى احتمال استمراره فى المستقبل القريب.

العوامل الداخلية هى السبب الأهم فى هذا التغيير، وبعض هذه العوامل هى بنيوية الطابع استغرقت وقتا حتى يظهر أثرها، ومن المؤكد أنها سوف تستمر وقتا ليس بالقصير، والبعض الآخر يرتبط بالمهارات السياسية فى توظيف الإمكانيات التى يتيحها التغير البنيوى.

على الصعيد الإقليمى لاشك أن الثروة النفطية التى توافرت لدول الخليج العربى هى التى أتاحت لها الموارد التى استخدمتها فى إدارة سياساتها الخارجية وكسب النفوذ على الصعيدين الإقليمى والدولى. ولكن هذه الثروة ما كان لها أن تحدث هذا الأثر لولا وجود قيادات لديها هذا الطموح فى أن تلعب هذا الدور، وأن تستخدم هذه الثروة لتحقيق نهضة فى مجتمعاتها برفع مستويات التعليم والصحة بين المواطنين والمواطنات، والسعى لتنويع الاقتصاد، وتعزيز القوات المسلحة التى امتلكت القدرة على العمل خارج الحدود بدرجات متفاوتة من النجاح، وفى بناء قوة ناعمة إعلامية ودبلوماسية تساند الدور النشط على الصعيد الخارجى. المملكة العربية السعودية تملك شبكة روتانا والعربية وصحيفة الشرق الأوسط، والإمارات تملك شبكة سكاى نيوز، وقطر كانت السباقة بامتلاك شبكة الجزيرة الأكثر متابعة على صعيد الوطن العربى وبالنسبة للعرب خارجه.

ولا يملك المرء إلا أن يقر بأن دول الجوار الشرق أوسطية نجحت فى أن توظف العلم فى بناء قدراتها الصناعية والاقتصادية والعسكرية وبدرجات مختلفة من النجاح فى كل من هذه الميادين. إسرائيل كانت الأكثر نجاحا، تليها تركيا ثم إيران. الدول الثلاث استخدمت العلم لبناء قدرات عسكرية تفوق كل الدول الأخرى فى الشرق الأوسط، ونجحت إسرائيل وتركيا فى تنويع الاقتصاد. ولم تنجح إيران فى تنويع اقتصادها بعيدا عن النفط الذى مازالت تعتمد بدرجة كبيرة على صادراته. تدخل الدول الثلاث عسكريا فى الدول العربية هو الدليل على ترجمة التفوق العلمى والاقتصادى فى كسب السيطرة على بعض جيرانها.

الدول العربية التى تراجعت فى سباق الزعامة الإقليمية هى الدول التى لم تنجح فى بناء هذه القدرات الاقتصادية، وسقطت إلى موقع التبعية لدول إقليمية أو للمؤسسات الدولية، إما بسب الاحتلال الأجنبى لأراضيها، أو التدخل العسكرى المستمر فى إقليمها، أو لأن قياداتها لم تتمكن من تحسين القدرة الإنتاجية أو تنويع الاقتصاد أو تقليل الاعتماد على مصادر ريعية تجود بها الطبيعة أو تحويلات العاملين المهاجرين من مواطنيها.

ونفس العوامل تصلح لتفسير صعود الصين على مسرح سياسة الشرق الأوسط وتراجع الولايات المتحدة والدول الغربية. طبعا كل هذه الدول هى التى تقود الثورة العلمية والتكنولوجية فى العالم، وهى التى تترجم هذه الثورة بالنهوض باقتصاداتها وتعزيز قدراتها العسكرية، ولكن مهارات القيادة وطبيعة النظام السياسى هى التى تفسر النجاح النسبى للصين وتراجع النفوذ الأمريكى فى الشرق الأوسط. القفزة العلمية فى الصين يشهد عليها أن عدد المقالات العلمية التى يكتبها العلماء الصينيون فى دوريات مشهود لها بجديتها يفوق ما يكتبه علماء الاتحاد الأوروبى مجتمعين ويلى فقط ما يكتبه العلماء العاملون فى الولايات المتحدة، والتنافس فى مجال البحث العلمى والتطوير يدور بين العملاقين الأمريكى والصينى. ولكن يتسم النظام الصينى بوجود حزب واحد وقيادة موحدة بينما يتسم النظام الأمريكى بالتعددية الحزبية وتعدد جماعات المصالح وتدخلها فى صنع السياسة الخارجية مما يضعف بكل تأكيد من فعالية السياسة الخارجية الأمريكية وتحديدا فى الشرق الأوسط، وهو ما أشار إليه عالم السياسة الأمريكى الراحل صمويل هنتنجتون الذى وصف أثر هذا التدخل بأنه انحسار المصلحة القومية فى صنع السياسة الخارجية أمام طغيان جماعات المصالح.

هل تتغير هذه الخريطة فى المستقبل القريب؟

يشير التحليل الوارد فى السطور السابقة إلى أن العوامل البنيوية هى التى توفر لصانع السياسة الخارجية الموارد التى تمكنه من إدارة السياسة الخارجية على نحو فعال. ولاشك أن هذه العوامل البنيوية سواء فى الثروة النفطية أو توظيف العلم للنهوض بالقدرات الصناعية والاقتصادية والعسكرية لكل الدول الأخرى ستستمر فى المستقبل، كما أنها تمكن من مواجهة التحديات الداخلية التى قد تنجم عن تطورات ديموغرافية غير ملائمة أو كساد لبعض فروع الاقتصاد. وإن كانت القدرة على هذا التوظيف تكاد تقتصر على المجال العسكرى فى كل من روسيا وإيران. ولكن القدرة على كسب النفوذ على الصعيدين الإقليمى والدولى تتوقف أيضا على الاستقرار السياسى ومهارة صناع السياسات. تثبت التجربة التاريخية أن احتمالات الاستقرار السياسى تكون أعلى فى النظم التى تتمتع بوجود مؤسسات ذات مصداقية لصنع السياسة والتى تسمح بحوار مفتوح حول بدائل السياسات. يشكل وجود مثل هذه المؤسسات تحديا حقيقيا لعدد كبير من الدول العربية وإيران.

نقلا عن الشروق