غضب الطبيعة – الحائط العربي
غضب الطبيعة

غضب الطبيعة



لعل أخطر التحديات التي تواجه إنسان العصر هو ذلك التحول الذي طرأ على المناخ بصفة عامة في مختلف أركان المعمورة كنتيجة متوقعة لإساءة الإنسان لاستخدام معطيات الكون وظواهره الطبيعية، فلقد استغرق البشر الذين يقترب عددهم من ثمانية مليارات نسمة في استنزاف ما أتيح لهم من إمكانات وفتوحات وأفكار جديدة من أجل المضي في مسيرة التقدم التكنولوجي الكاسح الذي لا تبدو له نهاية، فالآفاق مفتوحة والإنسان جائع إلى مزيد من الاختراعات، ومتعطش إلى الجديد من الاكتشافات، لذلك واجهنا في العقود الأخيرة المشكلة الكبرى والتي تمثل قضية الوجود برمته أمام إنسان العصر بطموحاته وأطماعه بل وبالنسيان الذي سيطر على العقل البشري حتى تصورنا أننا قد أخضعنا الطبيعة وسيطرنا تماماً على القرية الكونية التي نعيش فيها.

لقد بدأت الرحلة الصعبة بالحديث منذ عقود عدة عن ثقب الأوزون وما تلا ذلك من اجتهادات في هذا السياق على رغم أن إرهاصات الأمر بدأت منذ النصف الثاني من القرن الـ20، وأنا أتذكر الآن جيداً ذلك اليوم من عام 1972 عندما تقدمت لامتحان جامعي لتسجيل الدكتوراه في لندن وكان موضوع امتحان اللغة الإنجليزية يدور حول أحد المؤتمرات المبكرة للبيئة ولم يكن ذلك الموضوع مطروقاً قبل ذلك المؤتمر الذي انعقد في العاصمة السويدية حينذاك داعياً إلى ضرورة التفكير في التلوث البيئي الذي أحدثته حركة الإنسان والأعداد المتزايدة للجنس البشري.

ومنذ ذلك اليوم وإحساس عميق يدق جرس الإنذار من خلال أفواج من الدراسات العلمية والأبحاث المتصلة بالبيئة بما فيها المناخ والتربة والمياه، ثم جاء العقد الأخير ليحمل معه أوبئة جديدة وأمراضاً مستحدثة وكأنما يؤكد للجميع أن الخطر قادم وأن الإنسان الذي توهم أنه انتصر على الطبيعة قد أساء التقدير، إذ إن صبر الطبيعة ومكونات الكوكب لا يتغير بين يوم وليلة بل يحتاج إلى رحلة عقود وربما قرون لكي تتضح الظواهر الجديدة ويدرك الإنسان أخطار ما هو قادم.

ولعلي أناقش الأمر برمته من خلال بعض المحاور المطروقة بعد أن جرى تداول قضية تغير المناخ والتحولات الكونية المحتملة على نطاق واسع ومن خلال مؤتمرات عالمية ولقاءات دولية ودراسات لا تتوقف وتحذيرات ترفع الضوء الأحمر أمام مسيرة الإنسان وعلاقته بالطبيعة التي أغضبها عبر مئات السنين، وهذه المحاور نوجزها في النقاط التالية:

أولاً: لقد أصبح من المتيقن من خلال الملاحظات والدراسات أن للإنسان شركاء في كواكب أخرى لم نتمكن حتى الآن من اكتشاف أعماقها وسبر أغوارها بل إن المعلومات عنها تبدو كما لو كانت إشاعات علمية أكثر منها حقائق تتصل بقضايا الوجود والحياة والبقاء، لذلك فإن العبث بكوكب الأرض لا يعني بالضرورة أن الحياة ستتوقف قريباً لكن من المؤكد أن هناك ذلك الشعور المشترك بالخطر الذي يغلف أرجاء الدنيا بأركانها الأربعة، ولقد انشغل الإنسان بالتعامل مع الكواكب الأخرى ليهبط على سطح القمر ويقتحم مجالات لم تكن مطروقة من قبل في محاولات لاكتشاف عوالم جديدة.

والغريب في الأمر أنه كلما اكتشف الإنسان مجالاً جديداً فإنه يدرك على الفور أن هناك الكثير الذي يجهله مهما كانت محاولات التوصل فيه إلى الحقيقة عبر عالم لا يخلو من الغموض ولا يكشف عن كل أسراره دفعة واحدة، ولقد شهد القرن الماضي سباقاً محموماً بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا الاتحادية بل وشاركتهما قوى كبرى سعت بشدة إلى دخول حلبة المنافسة وإطلاق الصواريخ طويلة المدى لخدش سطح الكون والتعرف إلى أسراره.

ثانياً: إن القضايا المتعلقة بنقص الطاقة وندرة المياه وتلوث البيئة وتحول المناخ تبدو كلها شبكة عنقودية مخيفة تهدد استمرار الجنس البشري خصوصاً بالنسبة للمخلوق المدلل وهو إنسان العصر، لذلك نشطت الدراسات والأبحاث وتكاتفت جهود العلماء للبحث في صياغة جديدة للتعامل مع المكونات الطارئة حول كوكب الأرض ببحاره ومحيطاته ومساحات اليابسة في تكوينه.

وشعرنا في العالم العربي بأهمية الأمر حتى انعقدت قمة المناخ في العام الماضي في شرم الشيخ المصرية العربية، وسوف ينعقد المؤتمر التالي في دولة الإمارات العربية وبالحضور المكثف من القيادات السياسية والكوادر العلمية للبحث في الجموح الكوني الذي أصبح يؤدي إلى مخاوف ضخمة تصل أحياناً إلى إثارة التشاؤم في المستقبل وذلك وفق تضارب الآراء وتباين الدراسات التي لا يبشر معظمها بالخير إذا مضت مواكب البشرية وقوافل الإنسانية بنفس الإيقاع الذي تمضي به ولم نتمكن من تخفيض درجة حرارة الكون لبضع درجات في المستقبل.

ومن هنا باتت دراسة قضايا البيئة مثار اهتمام لا يبتعد عنه أحد ولا يتجاهله مركز جاد للأبحاث في أي بقعة من بقاع الدنيا، لذلك كان طبيعياً أن نرى الاهتمام الشديد بالعلاقة بين الإنسان والطبيعة وكيفية إحداث المواءمة بينهما.

ثالثاً: إن الأحداث المروعة للزلازل القوية والسيول الجارفة والفيضانات الجامحة تشير بوضوح إلى احتمالات التقلب الشديد لا في الطقس وحده لكن في درجة استقرار الكون الأرضي واحتمالات بروز ظواهر جديدة يمكن أن يهدد بعضها مستقبل الحياة ولو بشكل جزئي.

والملاحظ هنا أنه لا توجد بقاع في مأمن كامل عن الاخطار القادمة بل إن الجميع شركاء في تحملها والعمل على إرجاء حدوثها وعلاج الآثار السلبية لها، وإذا  كانت مراكز الأبحاث قد نشطت في هذا السياق إلا أن روح التشاؤم تسيطر على أجواء الدوائر العلمية المتصلة بالدراسات الفلكية والبيئية والأحوال الجوية، وسوف نظل نرقب ما يجري بمزيد من القلق لأنه مستقبل البشرية التي نشترك في حمايتها حفاظاً على الوجود واحتراماً لفلسفة الخلق التي أرادها مهندس الكون الأعظم سبحانه وتعالى.

رابعاً: إن انشغال الإنسان بالشؤون الأرضية – إذا جاز التعبير – وانخراطه في الحروب الدامية والنزاعات المسلحة والخلافات الحدودية هي كلها أمور عابرة لكنها تصرف النظر عن الخطر الأكبر المتصل بغضب الطبيعة وثوران البراكين لأنها تبدو لي كالمستجير بالرمضاء من النار، ولقد تنافست القوى العالمية في دراسات وأبحاث حول مستقبل الكون ولكننا نشعر أحياناً أنها ليست في مجملها بريئة أو عادلة وإنما هي ذات أهداف خفية تسعى إلى تغليب استمرار عناصر منتقاة من الجنس البشري على حساب السواد الأعظم من البشر العاديين وربما يخضع الأمر في النهاية لاختيار عنصري كما حدث بشكل أو بآخر أثناء توزيع جرعات التطعيم على أبناء الشعوب الفقيرة خلال أزمة وباء كورونا في الأعوام الماضية.

خامساً: إن الأمر الذي لا مراء فيه هو أن مجريات الأمور تستوجب إعطاء القضايا الكونية أهمية خاصة تعلو على غيرها ولا تقارن بسواها ذلك أن الجنس البشري مهدد بشكل مباشر في وجوده واستمراره والتعامل مع الأجيال القادمة فيه، لذلك فإننا نلفت الأنظار إلى ما جرى وما يجري على جميع الصعد العلمية والبحثية حول مستقبل الكون ومليارات البشر الموزعين على خريطة الدنيا بخاصة أن الموارد المحتملة للمياه والطاقة لا تكاد تكفي مقتضيات الحياة والأرقام الهائلة والأعداد المتزايدة من البشر.

إننا نريد أن نقول من خلال هذه النقاط الموجزة أن غضب الطبيعة قد تجاوز في العقود الأخيرة التوقعات التي كانت تسعى لرصد مظاهر ذلك الغضب وأصبحنا الآن أمام مظاهر أخرى لا تبدو لها نهاية… إن الإنسان خليفة الله في الأرض وسيد الكون يواجه بشكل جدي أخطاراً لم تكن محسوبة وقضايا لم تكن مطروحة في الماضي.

نقلاً عن اندبندنت عربيه