عقدت قمة “بغداد 2” للتعاون والشراكة التي استضافتها الأردن، في 20 ديسمبر الجاري، بمشاركة كل من الأردن وفرنسا والعراق ودول مجلس التعاون الخليجي مصر وتركيا وإيران، إلى جانب الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي ومنظمة التعاون الإسلامي والأمم المتحدة، حيث صدر بيانها الختامي الذي أكد على دعم استقرار وأمن العراق وتعزيز جهوده لتكريس دولة القانون، ودعم تطوير أواصر التعاون بين العراق ومحيطه الإقليمي. وقد تم التوافق على عقد القمة الثالثة العام القادم في مصر.
دلالات التوقيت
كان لافتاً أن الدول المشاركة، خاصة فرنسا، كانت حريصة على عقد القمة قبل انتهاء عام 2022، على نحو يوحي بأن باريس تسعى إلى تكريس انعقاد القمة بشكل سنوي، بعد عقد القمة الأولى في العاصمة العراقية بغداد في 28 أغسطس 2021. وربما يعني ذلك أن فرنسا تسعى إلى تعزيز دورها في الملفات الرئيسية بالمنطقة، خلال المرحلة القادمة، حتى لو لم تكن هي الرقم الأهم والأبرز في تلك الملفات، على غرار الملف العراقي، وهو ما يتصل بمحاولة باريس إعادة صياغة دورها العالمي في ظل التحولات التي طرأت على الساحة الدولية، منذ اندلاع أزمة الغواصات النووية مع كل من الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا، في 16 سبتمبر 2021، ثم نشوب الحرب الروسية-الأوكرانية، في 24 فبراير الماضي.
وربما تعول باريس على إمكانية أن تكون إحدى القوى التي يمكن أن تسد أي فراغ استراتيجي قد ينتج عن الانسحاب الأمريكي من المنطقة لصالح الاهتمام بمنطقة “الإندوباسيفيك”، إلا أن هذه المقاربة تواجه إشكاليات عديدة في المرحلة الحالية، في ظل اتجاه واشنطن إلى إعادة توسيع نطاق اهتمامها بما يحدث في منطقة الشرق الأوسط، خاصة في ظل ما فرضته الحرب في أوكرانيا من ارتدادات دولية وإقليمية لا يمكن تجاهلها.
فضلاً عن ذلك، كانت القمة بمثابة الفعالية الدولية الأولى التي يترأسها رئيس الحكومة العراقية الجديدة محمد شياع السوداني، وهي الفعالية الإقليمية الثانية التي يشارك فيها، بعد حضوره للقمة العربية-الصينية في الرياض. وهنا، فإن مشاركة السوداني ربما كانت فرصة للدول المعنية بالملف العراقي لمحاولة استشراف اتجاهات السياسة الخارجية العراقية خلال المرحلة القادمة، لا سيما بعد المرحلة التي شهدت حالة من عدم الاستقرار السياسي منذ إجراء الانتخابات البرلمانية في 10 أكتوبر 2021.
كما أن القمة جاءت في وقت تتصاعد فيه حدة الخلافات بين إيران وبعض القوى الإقليمية والدولية المشاركة في القمة، على غرار السعودية وفرنسا. فقد توقف الحوار بين إيران والسعودية، الذي كان يجري برعاية عراقية، عند جولته الخامسة، وما زال يراوح مكانه حتى الآن في ظل الخلافات العالقة بين الطرفين حول العديد من الملفات، وفي مقدمتها الملفين اليمني والنووي.
في حين اتسع نطاق التباينات بين إيران وفرنسا سواء بسبب تعثر المفاوضات النووية، على نحو دفع الأخيرة إلى توجيه انتقادات قوية للأولى والتهديد بتفعيل ما يسمى بـ”آلية الزناد” التي تعني تفعيل العقوبات الدولية المفروضة على إيران تلقائياً. هذا إلى جانب ملف السجناء الفرنسيين السبعة في إيران، والدعم العسكري الإيراني لروسيا في الحرب الأوكرانية.
بالتوازي مع ذلك، فإن القمة عقدت بعد أيام من التوتر الأمني الذي شهدته الأردن، على خلفية مقتل العقيد عبد الرزاق الدلابيح وما أعقبه من عملية أمنية استهدفت أحد المشتبه بهم الذي وصف بأنه “عنصر تكفيري”، على نحو أسفر عن مقتل ثلاثة شرطيين وإصابة خمسة آخرين، وهو ما يعني أن انعقاد القمة كان إشارة مهمة إلى دعم الدول المشاركة فيها لأمن واستقرار الأردن أيضاً.
ملفات رئيسية
رغم أن دعم أمن واستقرار العراق وتعزيز العلاقات بينه وبين محيطه الإقليمي، كان العنوان الأبرز للقمة، إلا أن ذلك لا ينفي أن ثمة ملفات أخرى سعت الدول المشاركة في القمة إلى طرحها، بالتوازي مع محاولة دول أخرى استغلال انعقاد القمة للتباحث حول ملفات جانبية، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1- استثمار القمة للتباحث حول التغير المناخي والطاقة: ركزت فرنسا خلال القمة على قضايا أخرى مثل التغير المناخي والطاقة، وهو ما يعكس اهتمامها الخاص بهذين الملفين تحديداً، على ضوء التطورات التي طرأت على الصعيد العالمي بخصوص التغير المناخي، فضلاً عن أزمة الطاقة التي ما زالت تعاني منها أوروبا نتيجة انعكاسات الحرب الروسية-الأوكرانية.
وبالطبع، فإن الاهتمام بقضية التغير المناخي لا ينفصل عن التحذيرات التي أطلقتها منظمات عديدة بشأن التهديدات التي تتعرض لها العراق بسبب هذه القضية، حيث قال غلام إسحق زي نائب الممثلة الخاصة للأمين العام، المنسق المقيم ومنسق الشؤون الإنسانية في العراق، في 13 نوفمبر 2022، أن التغير المناخي هو أكبر التهديدات التي تواجه العراق على الإطلاق.
وقد كان لافتاً أنه تم التركيز في البيان الختامي على مشروعات الربط الكهربائي بين دول مجلس التعاون الخليجي والعراق، فضلاً عن المشروعات التنموية بين مصر والأردن العراق. إلى جانب الاهتمام بدعم مطالب العراق فيما يتعلق بملف المياه، الذي يمثل أحد الملفات الخلافية مع كل من تركيا وإيران. كما أكد وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان خلال القمة على أن “الرياض وبغداد تتعاونان من خلال شراكاتهما في منظمة “أوبك” ومجموعة “أوبك بلس” من أجل الحفاظ على استقرار أسواق النفط العالمية.
2- إجراء مباحثات في ملفات أخرى: استغلت إيران انعقاد القمة من أجل محاولة توجيه رسائل إيجابية في ملفين رئيسيين هما الحوار مع السعودية والملف النووي. فقبيل القمة، أشار السفير الإيراني لدى بيروت مجتبي أماني إلى أن القمة قد تشهد لقاءا إيرانياً-سعودياً يتوازى مع استمرار ترحيب إيران بتحسين العلاقات مع السعودية.
في حين عقد وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان لقاء مع منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، حيث كان الملف النووي محور المحادثات، وهو ما يكتسب أهميته في ضوء أن هذا اللقاء جاء بعد يومين من زيارة وفد من الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى طهران، من أجل التوافق على تسوية الخلاف الأبرز بشأن عدم إجابة إيران على أسئلة الوكالة الخاصة بوجود جزيئات يورانيوم في ثلاثة مواقع غير معلن عنها.
لكن هذه الرسائل لا يبدو أنها سوف تنتج تداعيات إيجابية في ظل استمرار حرص إيران على التمسك بمواقفها إزاء الحوار مع السعودية والمفاوضات مع القوى الدولية، لا سيما في ظل تصاعد حدة أزمتها الداخلية بسبب عدم تمكن النظام من احتواء الاحتجاجات المستمرة منذ 16 سبتمبر 2022.
3- استقطاب دعم دولي وإقليمي لقضية السلام: كان لافتاً في كلمة العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني حرصه على التطرق إلى ملفات أخرى، مثل ملف عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، وإن كان بشكل غير مباشر، حيث أكد في كلمته في القمة على “إيمان الأردن بحاجة المنطقة للاستقرار والسلام العادل والشامل والتعاون الإقليمي، خاصة في المجالات الاقتصادية والتنموية ومعالجة قضايا الفقر والبطالة”.
وربما يعكس ذلك، إلى جانب التحركات الإقليمية التي قام بها الملك عبد الله في الفترة الأخيرة، حيث زار مصر والجزائر وشارك في القمة العربية-الصينية بالرياض، قلق الأردن من التطورات التي يمكن أن تطرأ على هذا الملف إلى جانب ملفات أخرى مع اقتراب الإعلان عن تشكيل حكومة جديدة في إسرائيل بقيادة رئيس الوزراء الأسبق بنيامين نتانياهو، والتي تمنح الأولوية للتعامل مع الملف الإيراني، في مقابل تراجع الاهتمام بملف التسوية مع الفلسطينيين.
4- توجيه رسائل مناوئة لطهران وأنقرة: استغلت دول عديدة، لا سيما فرنسا والأردن والعراق، شاركت في القمة الفرصة لتوجيه رسائل إلى كل من إيران وتركيا من أجل عدم التدخل في الشؤون الداخلية للعراق، خاصة أن الأخيرة شهدت عمليات عسكرية متزامنة شنتها الدولتان، حيث سعت تركيا إلى تعقب عناصر حزب العمال الكردستاني، خاصة بعد انفجار إسطنبول في 13 نوفمبر الفائت، فيما حين حرصت إيران على مهاجمة قواعد الجماعات الكردية الإيرانية المسلحة في شمال العراق بعد اتهامها بدعم الاحتجاجات الداخلية عبر تهريب السلاح.
إشكالية مستمرة
تواجه القمة إشكالية أساسية تتعلق بمدى قدرتها على تنفيذ الهدف الأساسي وهو دعم أمن واستقرار العراق. وفي الواقع، فإن هذه الإشكالية تعود إلى عاملين رئيسيين: أولهما، حرص الدول المشاركة على عدم الخوض في التحديات الداخلية العراقية التي تواجه الجهود المبذولة لتحقيق الأمن والاستقرار. ومن دون شك، فإن ذلك مفهوم باعتبار أن أحد المبادئ الأساسية التي دعت إليها القمة يتمثل في عدم التدخل في الشؤون الداخلية.
لكن في حالة العراق، لا يمكن تجاهل أن التحديات الداخلية تمثل معضلة أساسية، خاصة في ظل وجود مؤسسات موازية لمؤسسات الدولة، على غرار الحشد الشعبي، إلى جانب تصاعد تأثير التكتلات السياسية المرتبطة بولاءات خارجية مثل “الإطار التنسيقي” الذي يسيطر على حكومة السوداني.
وثانيهما، أن هناك طرفين أساسيين لهما دور في تقييم مدى إمكانية نجاح جهود تحقيق الأمن والاستقرار في العراق، هما الولايات المتحدة الأمريكية وإيران. وفي حين أن الأولى كانت غائبة عن القمة، فإن الثانية تبدو منهمكة في إدارة ملفات أخرى تمنحها الأولوية في الوقت الحالي على دعم هذه الجهود، هذا إن كانت لديها نية في هذا الدعم من الأساس.
فإيران ما زالت تبدي شكوكاً في أهداف تعزيز نطاق التعاون بين العراق ومحيطه الإقليمي، لا سيما عمقه العربي، حيث تعتبر أن ذلك يمثل آلية لتقليص نفوذها. كما أنها لن تتراجع عن التدخل في الشؤون الداخلية العراقية أو محاولة استخدام العراق كساحة لتصفية الحسابات مع القوى الأخرى، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يعني في النهاية أن عدم الخوض في معالجة هذه الإشكالية يضع سقفاً للأهداف التي يمكن أن تتحقق عبر هذه الفعالية الإقليمية والدولية الخاصة بالعراق.