ارتدادات عكسية:
رسائل تصنيف تركيا “حماس” حركة مقاومة

ارتدادات عكسية:

رسائل تصنيف تركيا “حماس” حركة مقاومة



في إطار تغيير الخطاب التركي تجاه تطورات الأوضاع في قطاع غزة، وزيادة حجم الخسائر البشرية والمادية في القطاع، أعلنت أنقرة رفضها تصنيف حماس حركة إرهابية واعتبرتها حركة مقاومة. وحمل هذا القرار دلالات عدة، في الصدارة منها حرص أنقرة على مركزية دورها في القضية الفلسطينية، وتأكيد ارتباطها بحماس، بالإضافة إلى موازنة حضور إيران في الداخل الفلسطيني، والتأثير على مقاربات الخصوم الغربيين تجاهها. بيد أن هذا القرار قد يحمل ارتدادات عكسية على علاقات أنقرة سواء مع إسرائيل أو القوى الغربية، وخصوصاً واشنطن.

إذ تعد تركيا من الأطراف الإقليمية التي تربطها علاقات وطيدة مع حركة “حماس”، وتنامت هذه العلاقة مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، حيث وفر الرئيس أردوغان ملاذات آمنة لعدد من قيادات الحركة المطلوبين لإسرائيل، من بينهم صالح العاروري نائب رئيس المكتب السياسي لـ”حماس”. واصطفّت تركيا مؤخراً في الدفاع عن الحركة عشية عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها في 7 أكتوبر 2023 ضد مستوطنات غلاف غزة، وهو ما انعكس في إعلان رفض تصنيف “حماس” كمنظمة إرهابية، واعتبرها الرئيس أردوغان في تصريحات له، في 26 أكتوبر المنصرم، حركة تحرير وجهاد تخوض معركة لحماية أراضيها. كما كثفت تركيا من اتصالاتها مع قادة الحركة خلال الأيام الماضية، بل ونفت صحة العديد من التقارير التي راجت مؤخراً، حول مطالبة تركيا لقادة “حماس” بمغادرة أراضيها.

رسائل متنوعة

يطرح قرار تركيا برفض تصنيف “حماس” جماعة إرهابية، عدداً من الرسائل، والتي يمكن بيانها على النحو التالي: 

1- ترسيخ دور تركيا في الملف الفلسطيني: يأتي الاعتراف التركي بشرعية حركة حماسفي إطار سعيها لترسيخ دورها في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي بات يحظى بأولوية إقليمية ودولية، خاصة بالنسبة للولايات المتحدة وأوروبا، وهو ما يتزامن مع التحركات الأمريكية المكثفة في التوقيت الحالي لدعم إسرائيل مقابل سعي القوى الإقليمية في الشرق الأوسط لتوسيع تفاهماتها مع أنقرة لوقف العدوان الإسرائيلي على غزة. وأسهم انفتاح تركيا على الأطراف الفاعلة في المشهد الفلسطيني في تعزيز نفوذها.

2- استمرار علاقة أنقرة بحركة حماس: أكد مركز مكافحة الأخبار المضللة التابع للرئاسة التركية، في 23 أكتوبر 2023، أن الادعاءات بأن الرئيس رجب طيب أردوغان أمر قيادات من حماس بمغادرة تركيا “على الفور” عارية عن الصحة تماماً. كما رفض الرئيس التركي، في 10 أكتوبر المنقضي، اعتبار “حماس” المسؤول الوحيد عمّا يحدث. وعلى الرغم من أن الموقف التركي ليس مستغرباً بالنظر إلى أن تركيا ترتبط بعلاقات وثيقة مع حركة “حماس”، إلا أن الإعلان عن القرار في هذا التوقيت يبدو كاشفاً عن حرص تركيا على تأكيد استمرار علاقاتها بالحركة.

3- موازنة الحضور الإيراني في الإقليم: قد تكون تركيا استهدفت من الإعلان عن رفض تصنيف حركة “حماس” إرهابية، الحيلولة دون أي تغلغل من قبل طهران في الإقليم من خلال توظيف القضية الفلسطينية، خاصة بعد تصاعد الحديث عن دور إيراني في دعم المقاومة الفلسطينية، وهو الأمر الذي ساهم في تطوير الصورة الذهنية لطهران في الوعي الجمعي الإسلامي والعربي. ويشار إلى أن العديد من التقارير الغربية، وتقديرات محلية إسرائيلية، كشفت عن دعم إيراني لعناصر حركة حماس التي نفذت عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر 2023. ولذلك، فإن ثمة مخاوف تركية من إمكانية أن تعمد طهران لاستغلال تطورات الأوضاع في غزة لتعزيز مصالحها في الإقليم، وبخاصة في مناطق التنافس بين البلدين.

وبرغم التحسن الحادث في العلاقة بين أنقرة وطهران، خاصة وأن الأولى تحولت إلى رئة اقتصادية لإيران بسبب العقوبات الغربية المفروضة عليها، فضلاً عن حرص أردوغان في التوقيت الحالي على إدارة علاقات بلاده الإقليمية بنهج قائم على التهدئة؛ إلا أن ذلك لا ينفي أن ثمة العديد من القضايا الخلافية بين البلدين على الإمساك بمفاصل الإقليم، وهو ما ظهر في تباين توجهات البلدين حيال الأوضاع في سوريا والعراق.

4- التأثير على سياسات الخصوم في الغرب: تستهدف تركيا من وراء دعم حماس في هذا التوقيت التأثير على مقاربات الخصوم الغربيين المناهضة للمصالح التركية، من خلال إيصال رسالة مفادها أن أنقرة قادرة على إزعاج وتعطيل السياسات الغربية في المنطقة، وأن عدم التعاطي مع المصالح التركية يمكن أن يدفع أنقرة إلى تعزيز تحالفاتها مع حركات المقاومة التي تمثل مصدر إزعاج وتهديد لإسرائيل. ولعل هذا ما يفسر التعاطف التركي مع غزة، والتأكيد على استمرار علاقاتها مع “حماس”. ويرجع ذلك إلى التعنت الأوروبي ضد لحاق أنقرة بالاتحاد الأوروبي جنباً إلى جنب مع الضغوط الأمريكية على التحركات التركية في شمال شرق سوريا، ودعم واشنطن للإدارة الذاتية الكردية التي تصنفها تركيا “إرهابية”، بالإضافة إلى معارضة الكونجرس منح تركيا الموافقة للحصول على الطراز المتقدم من طائرات “إف 16”.

وفي هذا السياق، تعمد تركيا إلى محاولة التأثير على مقاربات خصومها الغربيين عبر دعم حركة “حماس”، وتطوير الصورة الذهنية للحركة، ولعل هذا ما دفع واشنطن والقوى الغربية إلى التأكيد على أهمية التنسيق مع تركيا للإفراج عن الإسرائيليين والأجانب الذين أسرتهم حماس عشية عملية “طوفان الأقصى”.

5- تعزيز الشرعية الداخلية لأردوغان: قد يسهم هذا القرار في رفع رصيد الرئيس رجب طيب أردوغان في الداخل التركي، ولا سيما في الوقت الذي تشهد فيه صورته في الداخل تراجعاً كبيراً، كشفت عنه نتائج الانتخابات الرئاسية التي أجريت في مايو الماضي، ودخوله لأول مرة جولة إعادة. لذلك، فإن اعتبار أردوغان “حماس” حركة مقاومة مشروعة، لا ينفصل عن رغبته في تأمين جبهة الداخل التركي، وتعزيز شعبية حزب العدالة والتنمية في السوق السياسية التي باتت متشابكة ومعقدة، خاصة أن تركيا تقف على أعتاب انتخابات محلية مهمة في العام 2024.

وتجدر الإشارة إلى أن المعارضة التركية سعت إلى توظيف أزمة غزة لتطوير صورتها الذهنية في الشارع التركي، والخصم من رصيد السلطة الحاكمة، وظهر ذلك في محاولة بعض أطراف المعارضة الانتقاص من جهود حكومة أردوغان حيال الأوضاع في غزة، ففي الوقت الذي دعا فيه زعيم حزب الحركة القومية إلى ضرورة تدخل بلاده لفرض وقف العدوان على غزة، وهي الدعوة التي لاقت معارضة العديد من قوى المعارضة، مثل حزب المستقبل، وحزب الرفاه من جديد الذي دعا بدوره إلى إغلاق القواعد العسكرية الأمريكية على الأراضي التركية؛ فإن علي بابا جان رئيس حزب الديمقراطية والتقدم، أكد من جهته أن دور بلاده كان من الممكن أن يكون أكثر فاعلية وسط هذه الفاجعة الإنسانية. وأشار في تصريحات له إلى أن كلمة تركيا لم تعد قوية كما كانت في الماضي. أما زعيمة حزب الخير، فقد سعت إلى استثمار أزمة غزة، للتخلص من اللاجئين السوريين، عندما طالبتهم بالذهاب إلى غزة للدفاع عنها، وطالبت الحكومة بتسهيل وصولهم إلى فلسطين.

في هذا السياق، فإن تأكيد أردوغان على شرعية ومشروعية حماس كحركة مقاومة، يكشف عن محاولته الاستفادة من تزايد قاعدة القبول والتأييد في الشارع التركي على اختلاف اتجاهاته السياسية للحركة التي تمكنت من تدمير أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر.

تداعيات محتملة

قد يُسفر قرار أردوغان برفض تصنيف حماس حركة إرهابية عن عدد من التداعيات، في الصدارة منها عودة التوتر مع إسرائيل، وهو ما تجلى في مطالبة بعض النخب السياسية في إسرائيل بضرورة مراجعة العلاقة مع أنقرة، بالإضافة إلى مغادرة البعثة الدبلوماسية الإسرائيلية أنقرة. كما سبق هذه الخطوة رفض إسرائيل طلب تركيا للوساطة في أزمة غزة.

ويتوقع أيضاً أن يسفر هذا القرار عن زيادة مساحات التوتر بين أنقرة وإدارة الرئيس بايدن، خاصة أن الأخيرة تعتبر “حماس” شراً مطلقاً، ولذلك لاقى الموقف التركي حيال “حماس”تنديداً من قبل القوى الغربية، وبخاصة واشنطن.

بالتوازي، فإن هذا القرار قد يساهم في عودة انعطافة حماس باتجاه أنقرة خلال المرحلة المقبلة، لا سيما وأن الحركة كانت قد اتجهت إلى دعم علاقاتها مع طهران بعد توجه تركي لتصفير القضايا الخلافية مع دول الإقليم، وتطوير العلاقة مع الضفة الغربية، وهو ما تجلى في زيارة أبو مازن لأنقرة في 23 يوليو الماضي.

إضافة لما سبق، فإن ها القرار قد يوفر بيئة خصبة لدعم حضور أردوغان وحزبه في الداخل التركي، خاصة في أوساط الطبقات المحافظة التي تتعاطف مع مظلومية القضية الفلسطينية، وتعتبر حماس امتداداً عقائدياً لها. كما أن هذا القرار قد يقطع الطريق على أحزاب المعارضة التي سعت إلى المزايدة على جهود حكومة العدالة والتنمية في أزمة غزة، أملاً في توظيفها خلال الاستحقاق المحلي المقبل.

دلالة رمزية

ختاماً، يمكن القول إن قرار أنقرة باعتبار “حماس” حركة جهاد ومقاومة، رغم محدودية تداعياته الميدانية على جهود الحركة في مواجهة العدوان الإسرائيلي؛ يحمل قيمة سياسية ورمزية عالية في التوقيت الراهن، خاصة لجهة مساعي القوى الغربية الداعمة لإسرائيل لوصم حماس بالإرهاب، كما أنها قد تكون مؤشراً على أن تركيا تريد مساومة القوى الغربية في الملفات الشائكة التي تؤثر على تحركات تركيا ومصالحها في المنطقة. بيد أن الإعلان عن القرار في هذا التوقيت قد يحمل ارتدادات سلبية مباشرة على علاقات أنقرة وتل أبيب، وربما يصعب تجاوزها أو الالتفاف عليها في المرحلة المقبلة.