تبدي روسيا اهتماماً خاصاً بتعزيز علاقاتها مع دول منطقة الشرق الأوسط، بالتوازي مع مساعيها لمواجهة المحاولات الغربية لعزلها دولياً في أعقاب عملياتها العسكرية في أوكرانيا، والتي تدخل شهرها الرابع، وتقليص آثار العقوبات الأمريكية والأوروبية غير المسبوقة التي تعرضت لها. وقد بدا ذلك جلياً في الزيارات المتعددة التي قام بها وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف إلى بعض دول المنطقة، مثل الجزائر وتركيا والبحرين والسعودية، فضلاً عن توسيع نطاق انخراط موسكو في العديد من الأزمات الإقليمية.
أهداف عديدة
سعت روسيا من خلال الزيارات المتعددة التي قام بها وزير الخارجية سيرجي لافروف إلى منطقة الشرق الأوسط، في ظل العزلة التي ترغب الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الأوروبيون في فرضها عليها في أعقاب العمليات العسكرية التي شنتها ضد أوكرانيا، إلى تحقيق العديد من الأهداف الرئيسية، التي يتمثل أبرزها فيما يلي:
1- رفع مستوى التنسيق حول ملف الطاقة: يكتسب استمرار التنسيق مع الدول أعضاء مجموعة “أوبك بلس” أهمية خاصة من جانب موسكو، خاصة مع بروز توقعات بشأن رفع إنتاج المجموعة من النفط بعد معارضتها في السابق مطالب الدول المستهلكة بزيادة الإنتاج لمواجهة ارتفاع أسعار النفط إلى مستويات قياسية في أعقاب العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، والتي أدت إلى زيادة أسعار البنزين في وقت ترتفع فيه معدلات التضخم إلى مستويات غير معهودة منذ أربعة عقود. وقد انعكس ذلك في تصريحات نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك، على هامش منتدى سان بطرسبرج الاقتصادي الدولي في 16 يونيو الجاري، التي أكد فيها على أهمية استمرار التعاون داخل تحالف “أوبك بلس” من أجل تجنب انهيار سوق النفط، مشيراً إلى أن “سوق النفط متوازنة، لكن لا يزال هناك الكثير من أوجه عدم اليقين”.
2- استمرار الموقف العربي المتوازن من الأزمة الأوكرانية: تميز الموقف العربي من الأزمة الأوكرانية بالتوازن، حيث أكدت كثير من الدول العربية في أعقاب العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا على أهمية احترام سيادة الدول، وسلامة أراضيها، واستقلالها السياسي، وعدم التدخل في شئونها الداخلية، وعدم استخدام القوة أو التهديد بها، مع الانخراط في جهود الوساطة لحل الأزمة بين روسيا وأوكرانيا، وتسوية النزاع من خلال المفاوضات، ودعم جهود القوى الدولية والإقليمية التي تسعى لإنهاء الأزمة دبلوماسياً، ومساعدة الدول الأوروبية المتأثرة من حظر الطاقة الروسية. وقد تجنّبت الدول العربية -في الوقت ذاته- اتخاذ سياسات أو القيام بتحركات من شأنها إثارة استياء روسيا التي تمثل حليفاً لعدد منها، والتجاوب مع المطالب الأمريكية والغربية للمشاركة في العقوبات المفروضة عليها، وهى مواقف تسعى روسيا إلى الحفاظ عليها خلال المرحلة القادمة، خاصة مع غموض المسارات التي يمكن أن تتجه إليها الحرب في أوكرانيا.
3- الاستفادة من الخبرة الإيرانية في مواجهة العقوبات الأمريكية: أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده، في 20 يونيو الجاري، أن وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف سيقوم بزيارة لإيران نهاية الأسبوع الجاري. وتأتي تلك الزيارة في ظل حرص روسيا على الاستفادة من خبرة إيران في التعامل مع العقوبات الأمريكية التي استهدفت عزل الأخيرة تماماً عن الاقتصاد العالمي، إلى جانب تعزيز العلاقات التجارية الروسية-الإيرانية التي زادت بأكثر من ١٠٪ في الربع الأول من العام الجاري وفقاً لتصريحات نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك في 25 مايو الفائت. وقد أحيت العقوبات الأمريكية على روسيا مشروعاً متعثراً يربطها بالأسواق الآسيوية من خلال إيران يُسمى “ممر العبور شمال-جنوب”. وقد اختبرت طهران، في ١٢ يونيو الجاري، هذا الممر، حيث قال داريوش جمالي مدير محطة إيرانية-روسية مشتركة في استراخان أن شركة الشحن الإيرانية الحكومية بدأت أول نقل للبضائع الروسية إلى الهند باستخدام ممر تجاري جديد يمر عبر الأراضي الإيرانية.
4- تكريس الانخراط في قضايا المنطقة: سعت روسيا عبر هذه التحركات إلى توجيه رسالة مباشرة إلى القوى الإقليمية والدولية المعنية بأزمات المنطقة مفادها أنهعلى الرغم من انشغالها بالعمليات العسكرية في أوكرانيا، ومواجهة العزلة الغربية المفروضة عليها، والحد من آثار العقوبات الغربية؛ فإنها معنية بالاستمرار في الانخراط في ملفات المنطقة والتي يأتي في مقدمتها عملية السلام الفلسطينية-الإسرائيلية المتعثرة، التي تراجع الاهتمام الأمريكي بها من قبل إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن. فخلال زيارته للبحرين، في 31 مايو الفائت، تطرق وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف إلى هذا الملف، حيث دعا إلى إعادة إحياء عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، مشيراً إلى أن “عدم تسوية النزاع الفلسطيني الإسرائيلي يشكل بؤرة للتوتر في المنطقة”.
ومع تزايد تهديدات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشن عملية عسكرية في شمال شرق سوريا، أبدت موسكو- رغم حرصها على استمرار التنسيق مع أنقرة في التعامل مع التطورات التي تشهدها الساحة السورية- تخوفها من أن تؤدي تلك العملية إلى تدهور خطير في الأوضاع داخل سوريا، واعتبرت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، في 2 يونيو الجاري، أن “ضمان الأمن على الحدود التركية يتحقق بنشر قوات الأمن السورية”. وتوازى ذلك مع تحركات دبلوماسية تقوم بها روسيا في مجلس الأمن لإدانة قيام إسرائيل بشن هجوم على المطار القديم في دمشق، في 11 يونيو الحالي، والتسبب بخروج المهابط بالمطار من الخدمة. وقد أشارت تقارير عديدة، في 20 من الشهر نفسه، إلى أنها قد تعمل على طرح مشروع قرار في هذا السياق.
أهمية متزايدة
أعادت العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا التي تقترب من شهرها الرابع، ضمن تداعياتها العديدة، التأكيد على أهمية منطقة الشرق الأوسط بالنسبة للقوى الدولية بشكل عام، والولايات المتحدة الأمريكية على سبيل الخصوص، لا سيما أن الأخيرة تبنّت سياسات، خلال الإدارات الأمريكية المتعاقبة في العقدين الأخيرين، تقوم على تقليل الانخراط الأمريكي في المنطقة. فمع ارتفاع أسعار النفط إلى مستويات قياسية، بدأت الأنظار الأمريكية تتجه إلى المنطقة لزيادة إنتاجها من النفط للحد من الارتفاع في الأسعار التي تؤثر بالتبعية على الداخل الأمريكي. كما سعت الدول الأوروبية إلى إقناع بعض دول المنطقة بتعويض نقص الإمدادات الروسية بعد فرض عقوبات على موسكو وحظرها مع نهاية العام. وفي المقابل، تسعى كل من روسيا والصين إلى تعزيز حضورهما داخل المنطقة، على مستويات مختلفة، في ظل حرص دولها على توسيع هامش الخيارات المتاح أمامها على مستوى العلاقات مع القوى الكبرى في النظام الدولي، بما يخدم مصالحها وأمنها. ولذلك يتوقع أن تكون منطقة الشرق الأوسط خلال الفترة القادمة ساحة للتنافس مجدداً بين القوى الكبرى.