وجّه الاجتماع الثلاثي الذي ضم وزراء دفاع تركيا وروسيا وسوريا، واستضافته موسكو في 28 ديسمبر الفائت، بحضور رؤساء أجهزة استخبارات الدول الثلاث، العديد من الرسائل إلى القوى الدولية والإقليمية والأطراف المحلية، لا سيما في ظل مساعٍ روسية-تركية لتأسيس آلية ثلاثية بهدف تعزيز المسار الدبلوماسي بين أنقرة ودمشق، بالإضافة إلى دعم جهود مكافحة التنظيمات الإرهابية، وعودة اللاجئين السوريين، ومواجهة أزمات وضغوط الداخل في الدول الثلاث.
وقد اكتسب هذا الاجتماع أهميته من توقيت انعقاده، والأهداف التي سعت الدول الثلاث إلى تحقيقها عبره، فهو الأول الذي يجمع مسئولين سوريين وأتراكاً بشكل علني منذ اندلاع الأزمة السوية في عام 2011، فضلاً عن أنه يأتي في ظل تعقيدات الأزمة الأوكرانية، وبالتزامن أيضاً مع بدء تركيا، منذ 20 نوفمبر الماضي، غارات جوية على مناطق الشمال السوري.
دلالات التوقيت
اكتسب الاجتماع الأمني الثلاثي زخماً سياسياً واسعاً؛ كونه جاء في ظل تصاعد حدة التهديدات التركية ضد مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، فضلاً عن تزايد تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية على الدول الثلاث، إلى جانب أنه جاء في أعقاب مساعي قوى عربية لتقليص العزلة المفروضة على النظام السوري، وتوفير بيئة مواتية لتسوية سياسية للأزمة السورية. ويمكن تناول ذلك على النحو التالي:
1- تصاعد حدة الأزمة في شمال سوريا: جاء الاجتماع في ظل تصاعد التهديدات التركية بشن عملية عسكرية ضد مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في الشمال السوري، وبدء توغل بري داخل الأراضي السوريةلمواجهة نشاط المسلحين الأكراد على الحدود التركية، وهو ما تعارضه روسيا وسوريا على حد سواء. كما أنه توازى مع جهود تبذلها تركيا لإعادة اللاجئين السوريين قبل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي سوف تجرى في 18 يونيو القادم، خصوصاً أن ملف اللاجئين لم يعد يُشكل عبئاً على الاقتصاد التركي فحسب، بل بات ورقة ضعط تسعى قوى المعارضة التركية إلى استغلالها، بعد أن وجهت انتقادات إلى سياسة “الباب المفتوح” التي روج لها حزب العدالة والتنمية الحاكم لاستقبال السوريين، واعتبرت أنها كانت السبب في تفاقم الأزمة الداخلية. وهنا، يمكن فهم حرص أنقرة على تعزيز التقارب مع موسكو ودمشق لتمرير إقامة منطقة عازلة داخل العمق السوري لضمان تقليص مخاوف اللاجئين وتسريع العودة الطوعية.
2- تزايد العقوبات الغربية ضد روسيا: تعرضت روسيا منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا لعقوبات غربية طالت المفاصل الحيوية للاقتصاد الروسي، وفي الصدارة منها قطاع النفط، وتوازت مع مساعي أمريكية وأوروبية لفرض عزلة عليها. وفي هذا السياق، تسعى موسكو من خلال العمل على تطبيع العلاقات التركية-السورية إلى بناء تحالف جديد في الإقليم، يوفر لها فرصاً للتأثير على مقاربات خصومها الغربيين، وهو ما يمكن أن يساهم في تحييد التأثيرات السلبية للعقوبات المفروضة عليها.
3- اتساع نطاق الانخراط الأمريكي في المشهد السوري: لا ينفصل انعقاد الاجتماع عن عودة واشنطن لزيادة حضورها العسكري في المشهد السوري، وبدا ذلك جلياً في رفضها العمليات العسكرية التركية في شمال سوريا، واتجاهها نحو تكثيف دورياتها الأمنية المشتركة مع قوات “قسد”. كما أعلنت واشنطن، مطلع ديسمبر الفائت، عن بدء تجهيز قاعدة عسكرية جديدة في مدينة الرقة السورية. ويبدو أن واشنطن تراهن على توظيف الانشغال الروسي في الأزمة الأوكرانية لتطوير وتوسيع حضورها الأمني في سوريا، وذلك تحسباً لأية ترتيبات أمنية أو سياسية محتملة في المشهد السوري خلال الفترة المقلبة.
أهداف متعددة
يمكن القول إن الدول الثلاث سعت عبر هذا الاجتماع إلى تحقيق أهداف عديدة يتمثل أبرزها في:
1- تحسين العلاقات بين أنقرة ودمشق: لا تنفصل أهداف الاجتماع عن محاولات تسريع وتيرة التطبيع بين دمشق وأنقرة، وذلك من خلال تأكيد بيانه الختامي على أن الدول الثلاث قطعت شوطاً معتبراً على صعيد التنسيق بشأن معالجة الملفات الشائكة، وفي الصدارة منها حسم ملف عودة اللاجئين، بالإضافة إلى توسيع التفاهمات بين البلدين لمكافحة قوات “قسد”.
ويبدو أنّ ثمة قناعة تركية-سورية مشتركة بأهمية تطبيع العلاقات، وهو ما انعكس في إعلان وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو، في 29 ديسمبر الفائت، عن أن ثمة خطوة مقبلة بعد الاجتماع على مستوى وزراء الدفاع في موسكو تتمثل في عقده لقاء مع نظيره السوري. وفي المقابل، فإن الاجتماع الأمني الذي جاء برعاية روسية جاء كاشفاً عن تقاطع المصالح بين أنقرة ودمشق حيال عدد من القضايا المهمة، في الصدارة منها محاصرة الأكراد، وقطع الطريق على مساعي “قوات سوريا الديمقراطية” لتكريس الحكم الذاتي في المناطق الخاضعة لها، وهو ما يتعارض مع رغبة أنقرة ودمشق في آن معاً.
2- إثبات حيوية الدور الروسي دولياً: سعت روسيا إلى استغلال الاجتماع لتأكيد أنها لا تواجه عزلة دولية بعدما فرضت الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية عقوبات عليها بسبب الحرب الأوكرانية، وتوجيه رسالة مفادها أنه رغم انشغالها في إدارة العمليات العسكرية في أوكرانيا، فإنها لا تزال تحافظ على موقعها في المشهد السوري كقوة رئيسية في الترتيبات السياسية والأمنية. كما تستهدف موسكو توظيف الاجتماع لإثبات قدرتها على الانخراط في تسوية ملفات إقليمية ودولية، وعلى رأسها تقليص التوتر المزمن في العلاقات السورية-التركية.
3- موازنة التحذيرات الأمريكية لتركيا: وجّهت الولايات المتحدة تحذيرات شديدة لتركيا من مخاطر التوغل البري في مناطق الشمال السوري، واستهداف عناصر “قسد” التي تعتبرها واشنطن طرفاً رئيسياً في مكافحة تنظيم “داعش”، كما رفضت الضغوط التركية لتصنيفها إرهابية. لذلك، مثّل الاجتماع فرصة لأنقرة من أجل تنسيق المواقف مع الأطراف الفاعلة في المشهد السوري وتحييد ضغوط واشنطن التي بدأت في وضع ترتيبات أمنية وعسكرية جديدة شمال شرقي سوريا في ضوء تهديد الأولى بشن عملية برية شمال سوريا.
ويُشار في هذا السياق إلى إعلان وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، في 24 ديسمبر الفائت، عن أن بلاده تجري محادثات مع روسيا لاستخدام المجال الجوي فوق شمال سوريا في إطار استعداداتها لعملية محتملة عبر الحدود ضد وحدات حماية الشعب الكردية السورية.
4- دعم شرعية النظام السوري: تبذل دمشق جهوداً حثيثة من أجل تقليص حدة العزلة الدولية والعقوبات الغربية المفروضة عليها منذ عام 2011. ولذلك مثّل الاجتماع أيضاً فرصة مواتية للنظام السوري من أجل تعزيز شرعيته في الخارج من جهة، واحتواء ضغوط الخصوم الإقليميين من جهة أخرى. ومن دون شك، فإن سوريا تسعى من وراء تقليص حدة التوتر مع تركيا إلى تفكيك علاقات الأخيرة مع الفصائل الموالية لها، والتي تناهض النظام السوري.
ويبدو أن دمشق راهنت على توظيف الاجتماع لتحسين صورة النظام في الداخل، لا سيما في ظل استمرار الاحتجاجات التي تشهدها مناطق مختلفة، وآخرها تظاهرات مدينة السويداء التي انطلقت في 4 ديسمبر الفائت بسبب تردي الأوضاع المعيشية.
5- تعزيز موقع حزب العدالة والتنمية قبل الانتخابات: قد يساهم الاجتماع في تعزيز موقع حزب العدالة والتنمية الحاكم في الداخل التركي، حيث تتوقع العديد من التقديرات أن يتم تأسيس مرحلة جديدة من التعاون بين سوريا وتركيا، وهو الأمر الذي يمكن أن يساهم في احتواء أزمة اللاجئين السوريين التي طالما استغلتها المعارضة التركية لتوسيع نطاق ضغوطها على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه.
وفي مسارٍ موازٍ، فإن التقارب مع دمشق يحرم المعارضة قبل الاستحقاق الانتخابي المقبل من توظيف الورقة السورية التي استغلتها في انتقاد السياسة الخارجية للحزب الحاكم، حيث تتهمه بالمسئولية عن توتر العلاقات مع دمشق.
مسار جديد
ختاماً، يمكن القول إن انعقاد الاجتماع الثلاثي في موسكو في هذا التوقيت، وما شهده من تقليص حدة التوتر بين أنقرة ودمشق، قد يشير إلى أن ثمة تحولات محتملة ليس فقط في تطورات المشهد السوري، وإنما في مستقبل العلاقات بين تركيا وسوريا، حيث تتزايد احتمالات تطبيع العلاقات في المرحلة القادمة وإن كان ذلك قد يستغرق وقتاً في ظل الخلافات العالقة بين الطرفين. كما أن الاجتماع جاء كاشفاً عن استمرار فاعلية الدور الروسي في بعض قضايا الإقليم برغم التحديات التي تواجهها موسكو بسبب الحرب الأوكرانية.