كشفت جلسة الاستماع الأخيرة بلجنة الخدمات المسلحة بمجلس الشيوخ الأمريكي، التي عقدت في 28 سبتمبر الفائت، حول انتهاء العمليات العسكرية في أفغانستان وخطط مكافحة الإرهاب، عن بعض ملامح اختلاف المقاربات داخل مؤسسات صنع القرار الأمريكي تجاه منطقة الشرق الأوسط وقضاياها، وذلك على الرغم من حرص الرئيس جو بايدن على اختيار العديد من المسئولين الذين عملوا معه خلال توليه منصب نائب الرئيس في إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما لمدة ثماني سنوات، ومن كانوا يتفقون معه في الرؤية تجاه التعامل مع ملفات السياسة الخارجية والأمن القومي، لتولي مناصب عليا بالإدارة الأمريكية الحالية.
محاور الخلاف
تشير تصريحات العديد من المسئولين في الإدارة الأمريكية إلى أن هناك رؤى مختلفة ومتعددة داخلها حول المقاربات الأنسب للتعامل مع التهديدات التي تفرضها التطورات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، ومن أبرزها:
١- رفض الرئيس نصيحة بقاء قوات أمريكية في أفغانستان: ذكر رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال مارك ميلي، وقائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال كينيث ماكنزي، أنهما نصحا الرئيس بايدن ببقاء حوالي ٢٥٠٠ جندي أمريكي في أفغانستان خوفاً من الانهيار السريع للجيش الأفغاني الذي أنفقت الولايات المتحدة الأمريكية على مدار العقدين الماضيين حوالي ٨٣ مليار دولار لتدريبه ليكون قادراً على محاربة حركة “طالبان” والمساهمة في دعم استقرار أفغانستان، في أعقاب انسحاب القوات الأمريكية، حيث كانا يتوقعان انهيار الحكومة الأفغانية وعودة “طالبان” إلى السيطرة على أفغانستان واندلاع حرب أهلية، وهو ما أظهر التناقض في تصريحات الرئيس بايدن الذي كان مصمماً على قراره بسحب القوات الأمريكية قبل حلول الذكرى العشرين لأحداث 11 سبتمبر 2001، حيث ذكر أنه لم يتلق توصية من المسئولين العسكريين ببقاء قوات أمريكية في أفغانستان.
٢- تباين حول سبل العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران: قام الرئيس بايدن، في 29 يناير الماضي، بتعيين روبرت مالي ليكون مبعوثاً خاصاً للولايات المتحدة الأمريكية لإيران، وأوكل إليه قيادة جهود الإدارة الأمريكية للعودة إلى الاتفاق النووي الذي توصلت إليه إيران مع مجموعة “5+1” في 14 يوليو ٢٠١٥، باعتباره أولوية لها في منطقة الشرق الأوسط، كما اختار ويندي شيرمان، التي مارست دوراً في التوصل إلى ذلك الاتفاق، لتكون نائبة لوزير الخارجية الأمريكية. وكان لافتاً أن كلاً منهما يتبنى مقاربة مختلفة تجاه إيران، حيث تدعو شيرمان إلى اتباع سياسة متشددة مقارنة بمالي، وترى أن التفاوض مع طهران لابد أن يقود إلى توسيع نطاق الاتفاق وتقويته ليضم ملفات لم تتفاوض عليها إدارة أوباما على غرار الدور الإقليمي وبرنامج الصواريخ الباليستية.
وقد عبّرت وزارة الخارجية الأمريكية، أكثر من مرة، عن أن التزام إيران بالعودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة أمر مقبول ولكنه غير كافٍ، حيث لابد أن يقترن بتعديل السلوك الإيراني في المنطقة. بينما يعطي مستشار الأمن القومي جيك سوليفان الأولوية للالتزام الإيراني بالاتفاق مقابل الالتزام الأمريكي، ويرى أن الإصرار على إضافة القضايا الخلافية مع إيران، مثل الدور الإقليمي وبرنامج الصواريخ، في المراحل الأولى من المفاوضات سوف يؤدي إلى تعقيد الجهود المبذولة للعودة إلى الالتزام المتبادل بالاتفاق النووي وربما يدفع إيران إلى المضى قدماً في تطوير برنامجها النووي.
٣- انتقاد تركيا مع الحفاظ على العلاقات الاستراتيجية: لا تتبنى الإدارة الأمريكية سياسة واضحة المعالم إزاء كيفية التعامل مع تركيا، حيث أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية على لسان نائبة وزير الخارجية ويندي شيرمان، في أول أكتوبر الجاري، أن الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر أنقرة شريكاً مهماً لها في حلف شمال الأطلنطي وأنها ملتزمة ببناء علاقات معها على الرغم من الخلافات حول صفقة صواريخ “إس-٤٠٠” الروسية. ولكن المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية حث أنقرة، بعد إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في 27 سبتمبر الفائت، أن بلاده لا تزال تعتزم شراء دفعة ثانية من منظومة الدفاع الروسية، على عدم الاحتفاظ بالمنظومة والامتناع عن شرائها لأن ذلك يهدد بفرض عقوبات عليها بموجب قانون “كاتسا” بخلاف تلك التي فرضت في ديسمبر الماضي.
وعلى الرغم من ضغوط بعض المسئولين العسكريين على تركيا لمنع شرائها أسلحة روسية، لما لها من تأثيرات على التعاون العسكري بين البلدين، والمشاريع العسكرية بينهما، لا تزال وزارة الدفاع الأمريكية تحافظ على التواصل مع نظيرتها التركية. وفي هذا الإطار، أكد الدفاع الأمريكي لويد اوستن، خلال اتصال هاتفي مع نظيره التركي خلوصي اكار، في أول أكتوبر الجاري، على القيمة الكبيرة التي توليها الولايات المتحدة الأمريكية لعلاقاتها الدفاعية مع تركيا والتي تجلت في التعاون القوي بين البلدين بشأن أفغانستان.
وعلى الرغم من اهتمام الرئيس بايدن بقضية حقوق الإنسان وقوله إنها ستكون في صميم السياسة الخارجية الأمريكية، فإنه لم يطرحها للنقاش خلال لقائه مع الرئيس أردوغان خلال اجتماعهما، في 14 يونيو الماضي، على هامش قمة حلف الناتو في مقابل مناقشة الأزمات في أفغانستان وسوريا وشراء تركيا منظومة الدفاع الروسية.
٤- تخبط حول قرار تقليل الانخراط الأمريكي في المنطقة: بينما تعمل الإدارة الأمريكية على تقليل الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة بعد الإعلان عن هزيمة تنظيم “داعش” الإرهابي، ومنح الأولوية لمواجهة روسيا والصين، وإنهاء الحروب الأمريكية اللانهائية وسحب القوات الأمريكية من أفغانستان، والتخطيط لإنهاء الوجود العسكري الأمريكي بالعراق مع نهاية العام، شهدت الأشهر الماضية زيادة في الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة لمواجهة إيران، بالتوازي مع تأكيدات عسكرية باستمرار الوجود العسكري في سوريا، لتقديم تطمينات لبعض القوى التي تبدي قلقاً إزاء التداعيات التي يمكن أن تفرضها خطوات أمريكية مشابهة في المنطقة بعد إتمام عملية الانسحاب من أفغانستان في بداية سبتمبر الفائت.
اتجاه واقعي
تضم المؤسسة التنفيذية الأمريكية العديد من الوكالات والوزارات والمستشارين الذين يمارسون أدواراً مختلفة في عملية صنع القرار الأمريكي لاسيما إزاء القضايا الخارجية، وعادةً ما يكون لكل منها رؤية مختلفة لقضايا السياسة الخارجية الأمريكية، وتلك القاعدة وليست الاستثناء، ما يوفر أمام الرئيس الخيارات والسياسات المختلفة التي يرجح إحداها لتكون السياسة الخارجية الأمريكية تجاه منطقة أو قضية أو صراع بعينه خلال السنوات الأربع للإدارة الأمريكية، وإن كان هذا لا يعني أنها قد لا تشهد بعض التغيرات لمواكبة التطورات الحادثة فيها.
وعلى الرغم من إعلان الإدارة الأمريكية الحالية وبعض مسئوليها عن توجهات تُعلي من المبادئ والقيم الأمريكية عند التعامل مع منطقة الشرق الأوسط وقضاياها، فإنها تبنت في النهاية المقاربة الواقعية التي تحقق المصالح والأمن الأمريكي متى يكون هناك تعارض بين المبادئ والمصالح، وكثيراً ما تلجأ الإدارة إلى الموازنة بين الرؤى المختلفة داخلها، والتي تكون في كثير من الحالات إحدى أدوات الضغط على الدول وأطراف الصراع لإحداث تحولات في مواقفها بما يتناسب مع الرؤية والتوجهات الأمريكية الواقعية.