ألقى الجدل الذي تصاعد داخل الولايات المتحدة الأمريكية مؤخراً حول مشروع تمويل نظام القبة الحديدية الإسرائيلي، بعد أن أقره مجلس النواب، في 23 سبتمبر الجاري، مزيداً من الضوء على توجهات ما يسمى بـ”التيار التقدمي” داخل الحزب الديمقراطي، لاسيما أن بعض نوابه عارضوا تمرير المشروع. وكان هذا التيار تحديداً قد سعى إلى ممارسة ضغوط على إدارة الرئيس جو بايدن من أجل التدخل لوقف إطلاق النار بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية خلال التصعيد العسكري الذي اندلع في الفترة من 10 إلى 20 مايو الماضي. وخلال الأسابيع الماضية، قدّم العديد من المشرعين التقدميين داخل مجلس النواب الأمريكي مشاريع قوانين من شأنها إحداث تحول – حال تمريرها من مجلسى الكونجرس – في مقاربات الإدارات الأمريكية المتعاقبة تجاه دول المنطقة والأزمات التي تتصاعد فيها خلال الفترة الحالية.
تحول لافت
شهدت انتخابات الكونجرس لعام ٢٠١٨ نجاح العديد من أنصار التيار التقدمي في مجلس النواب الأمريكي، ومن أبرزهم رشيدة طليب (من أصل فلسطيني)، وإلهان عمر (من أصل صومالي) وأليسكاندريا أوكاسيو كورتيز وآيانا بريزلي. وقد مثّل انتخابهن تحولاً لافتاً بين الناخبين الأمريكيين. وقد كانت الانتخابات التمهيدية داخل الحزب الديمقراطي للانتخابات الرئاسية لعام ٢٠٢٠ لاختيار مرشحه مؤشراً على أن التيار التقدمي أصبح طرفاً رئيسياً وفاعلاً في واشنطن، بعد منافسة السيناتور بيرني ساندرز القوية في تلك الانتخابات قبل انسحابه وتأييده مرشح الحزب في تلك الانتخابات، جو بايدن، لإنهاء حالة الانقسام المحتدمة داخل الحزب، وتوحيده لمواجهة المرشح الجمهوري آنذاك الرئيس السابق دونالد ترامب.
ويضم مجلسا الكونجرس (مجلس النواب والشيوخ) العديد من المشرعين الديمقراطيين الذي يصفون أنفسهم بالتقدميين، والذين يمارسون ضغوطاً على المسئولين الأمريكيين لتجنب الانخراط في الصراعات الخارجية، والتركيز على القضايا الاقتصادية والاجتماعية الداخلية. ويضع أنصار التيار التقدمي الأولوية لمعالجة تغير المناخ وتعزيز حقوق الإنسان.
ملفات متعددة
يتبنى أنصار التيار التقدمي داخل الحزب الديمقراطي رؤى مختلفة للسياسة الخارجية الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط، عن تلك التي يتبناها التيار المؤسسي والمعتدل داخل الحزب والذي يمثله حالياً الرئيس جو بايدن، ومن أبرز تلك الرؤى ما يلي:
1- اتخاذ الخطوة الأولى في الملف النووي الإيراني: عارض التقدميون داخل الكونجرس انسحاب إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب بصورة أحادية من الاتفاق النووي الإيراني في 8 مايو ٢٠١٨، وتبنيها لسياسة “الضغوط القصوى” لإرغام طهران على الانخراط في مفاوضات للوصول إلى اتفاق جديد. وعلى الرغم من تأييدهم لهدف الرئيس جون بايدن بالعودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة، فإنهميرون أن الولايات المتحدة الأمريكية بحاجة إلى اتخاذ الخطوة الأولى في العودة إليها. ففي هذا السياق، دعا السيناتور كريس مورفي والنائب رو خانا إلى مواقف أمريكية أكثر استباقية تجاهها.
وبينما تطالب إدارة جو بايدن إيران باتخاذ الخطوة الأولى قبل رفع العقوبات الأمريكية وعودة التزام الولايات المتحدة الأمريكية بالاتفاق- باعتبار أن إيران تعمدت تخفيض التزاماتها بالاتفاق النووي ورفعت مستوى عمليات تخصيب اليورانيوم إلى 60% وأنتجت منها 10 كيلوجرام وفقاً لتقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية في 7 سبتمبر الجاري- يدعو السيناتور مورفي الإدارة إلى اتخاذ الخطوات الأولى لأن واشنطن هى من انسحبت منه خلال إدارة ترامب. ويطالب، مع النائب روحا خانا، الإدارة برفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران على الفور من أجل عودتها إلى الاتفاق، وإعادة فرضها مجدداً إذا لم تستجيب طهران للالتزامات المنصوص عليها في الاتفاق، وهو ما ترد عليه اتجاهات عديدة بأن ذلك قد يفرض تداعيات سلبية على مصالح واشنطن والقوى الرئيسية في المنطقة، باعتبار أنه لا يمكن الوثوق في التزام إيران بتعهداتها مجدداً، فضلاً عن أن مثل هذه الدعوات توجه رسائل تفهمها الأخيرة على نحو خاطئ يدفعها إلى الإمعان في اتخاذ مزيد من الإجراءات التصعيدية على المستوى النووي.
2- الدعوة إلى تخفيض المساعدات العسكرية لإسرائيل: شهدت الأشهر الماضية توجهاً داخل الكونجرس الأمريكي من أنصار التيار التقدمي لخفض المساعدات العسكرية الأمريكية لتل أبيب. فقد عارضت إلهان عمر (النائبة عن ولاية ميشيجان) ورشيدة طليب (النائبة عن ولاية مينيسوتا) تخصيص مليار دولار لتجديد نظام القبة الحديدية الإسرائيلي بمشروع قانون التمويل الفيدرالي. ولاسترضاء النواب التقدميين تم حذف البند من النسخة النهائية للقانون. ويأتي رفض التيار التقدمي لتمويل القبة الحديدية بقيمة مليار دولار لمعارضته السياسات الإسرائيلية تجاه الملف الفلسطيني.
لكن جهود التيار التقدمي لا تصل إلى درجة التأثير في السياسات الأمريكية التقليدية تجاه إسرائيل، على نحو بدا جلياً في تمرير المبلغ المخصص لتجديد نظام القبة الحديدية وفق تشريع خاص قدمه زعيم الديمقراطيين بمجلس النواب النائب سيني هوير، في 23 سبتمبر الجاري، وحصل على موافقة ٤٢٠ نائباً مقابل معارضة ٩ نواب (٨ ديمقراطيين وجمهوري).
3- استشارة الكونجرس قبل توجيه ضربات عسكرية بالمنطقة: يقود التيار التقدمي داخل الكونجرس الجهود لتقييد سلطات الحرب للرئيس الأمريكي، واستخدام القوة العسكرية بدون الرجوع إلى المؤسسة التشريعية، والتفويضين لاستخدام القوة العسكرية في المنطقة لعامى ٢٠٠١ و٢٠٠٢، اللذين استند عليهما الرئيس جو بايدن، مثل باقي الرؤساء الأمريكيين السابقين، لتوجيه ضربات عسكرية ضد الميليشيات العسكرية المدعومة من إيران في فبراير ويونيو الماضيين، وذلك تجنباً لانخراط القوات الأمريكية في حرب جديدة وإن كانت محدودة في المنطقة.
4- إنهاء الوجود العسكري الأمريكي في سوريا: يعارض أنصار التيار التقدمي استمرار انخراط الولايات المتحدة عسكرياً في الصراعات والأزمات الدولية. واتساقاً مع تلك الرؤية، اقترح النائب جمال بومان، في 22 سبتمبر الجاري، تعديل قانون تفويض الدفاع، بما يتطلب أن يحصل الرئيس الأمريكي على إذن من الكونجرس لاستمرار القوات الأمريكية في سوريا. ويهدف التعديل إلى استعادة الكونجرس سلطاته الحربية وطرح الوجود العسكري الأمريكي، الذي يراه غير مرخص به من الكونجرس، للنقاش داخل المؤسسة التشريعية باعتبارها من تملك الموافقة على وجود القوات الأمريكية في الخارج.
وقد رفض هذا التعديل ٢٨٦ نائباً مقابل موافقة ١٤١ نائباً. ولكن نسب التصويت تلك تكشف عن أن هناك دعماً قوياً لإنهاء سبع سنوات من العمليات العسكرية الأمريكية في سوريا. في مقابل ذلك، لا يريد البيت الأبيض وضع قيود على العمليات العسكرية الأمريكية في سوريا التي تعد جزءاً من استراتيجية أمريكية شاملة لهزيمة التنظيمات الإرهابية في سوريا، ولا سيما تنظيمى “القاعدة” و”داعش” من خلال العمل مع ميليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) وشركاء محليين سوريين آخرين.
5- التركيز على الحرب ضد التنظيمات الإرهابية: يرى بعض أقطاب هذا التيار أن المهمة الرئيسية للوجود العسكري الأمريكي في العراق تتمثل في الحرب ضد الإرهاب، ولاسيما تنظيم “داعش”، وهو ما لا ينفصل عن محاولاتهم الضغط على الإدارة الأمريكية من أجل تقييد تحركاتها العسكرية في الخارج، رغم أن القوات الأمريكية تتعرض- في بعض الأحيان- لهجمات وتهديدات من جانب بعض القوى والميليشيات المناوئة لها في المنطقة على غرار الهجمات التي تشن ضدها في كل من سوريا والعراق.
تأثير محدود
يتضح مما سبق أن التيار التقدمي الصاعد داخل الحزب الديمقراطي لم ينجح حتى الآن في إحداث تحولات فعلية في سياسات الإدارة الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط، لكن ذلك لا ينفي أن مواقفه الجماعية باتت تمثل رقماً مهماً في التفاعلات التي تجري داخل الولايات المتحدة الأمريكية حول الملفات الرئيسية في المنطقة.
ويتوقف تأثير التيار التقدمي على السياسة الخارجية الأمريكية بصفة عامة وتجاه منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص على متغيرين رئيسيين:
يتمثل أولهما، في مدى قبول الناخب الأمريكي لتوجهاته، ولاسيما بين الناخبين الشاب الذين زاد تأثيرهم في الانتخابات الأمريكية السابقة، ويتوقع تصاعده في الانتخابات القادمة نتيجة للتغيرات الجيلية التي تشهدها الولايات المتحدة الأمريكية في الآونة الآخيرة والتي كشف عنها تقرير الإحصاء السكاني لعام ٢٠٢٠.
وينصرف ثانيهما، إلى نتائج انتخابات التجديد النصفي للكونجرس المقرر لها في نوفمبر ٢٠٢٢، والتي سوف يكون لها دور في تحديد عدد الأعضاء التقدميين بمجلسى الكونجرس، وكذلك دورهم في الانتخابات الرئاسية لعام ٢٠٢٤.