دور المجالس الإقليمية – الحائط العربي
دور المجالس الإقليمية

دور المجالس الإقليمية



ليس سراً تباين مواقف الدول العربية إزاء المفاوضات الجارية في فيينا لاستعادة العمل بالاتفاق في شأن النشاط النووي الإيراني، التي تحضرها فرنسا وبريطانيا وألمانيا والاتحاد الأوربي وروسيا والصين وإيران، بينما تراقبها من قرب الولايات المتحدة. بل إن دول مجلس التعاون ليست كلها على موقف واحد مما يجري، ولم تعر الدول المشاركة اهتماماً بالرغبة الحميمية لبعض دول المنطقة المشاركة في المسار التفاوضي الحالي. وأعلنت الدول المشاركة صراحة أن لا مكان لأي طرف جديد حول الطاولة. وهو تكرار للسيناريو نفسه الذي حدث قبل المباحثات وخلالها وبعدها، التي نتج عنها ما يعرف بخطة العمل الشاملة المشتركة. وقد تم التوقيع على الاتفاق في 21 يوليو (تموز) 2015، وقرر الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب الانسحاب منه في 8 مايو (أيار) 2018 بنصيحة من رئيس الحكومة الإسرائيلية حينها، بنيامين نتنياهو، الذي كان له تأثيره القوي في البيت الأبيض عبر صهر ترمب، جاريد كوشنر.

المواقف الإعلامية التي تصدر عن المنظمات الإقليمية إزاء إيران لم تنعكس في حشد سياسي جماعي مؤثر تجاه التدخلات الإيرانية في عدد من العواصم العربية بالدعم المادي والعسكري والمساندة السياسية والإعلامية. والسبب في ذلك هو غياب التنسيق الحقيقي إلى جانب الشكوك التي تخيم على العلاقات البينية، وأصبحت هي القاعدة التي تقوم عليها السياسات المختلفة إلى حد التناقض على الرغم مما يبدو على السطح من صفاء وود، ولكنه لا ينعكس على عمل مشترك يحفظ كيان المنطقة كلها.

تمكنت إيران من التوغل في المنطقة بمشروع واضح الهوية والمعالم، ولم تتوانَ، ولم تخجل عن الإعلان عنه صراحة. وفي ظل التراخي والتكاسل لم تتم مواجهته من بداياته. هكذا، صار لإيران حلفاء يعملون ويقفون معها ويدافعون عنها، بينما الأطراف العربية المؤثرة تنشغل في مشاريع داخلية واقتصادية وتنموية، مما تسبب في خلق مساحات تملؤها إيران بأقل التكاليف عبر حلفائها المحليين. وهذه الحال تبين لنا حجم غياب التوازن بين السياسات الداخلية والخارجية، إذ لا يتم الالتفات إليه إلا بعد أن يكون الأمر قد استفحل وأصبح العلاج مكلفاً للغاية، وربما ما عاد ممكناً إلا بعد مرحلة زمنية طويلة.

حين أنظر إلى الأوضاع في لبنان، على سبيل المثال، أستنتج أن التهاون العربي عن متابعة أوضاعه والانغماس المثابر والجاد في تدبير شؤونه جعله يصل إلى مرحلة من عدم الاتزان الداخلي، وفقدت العواصم العربية الكبرى كل قدرة على إعادة ضبط بوصلة الأوضاع فيه، أو في الأقل المشاركة في صوغ حاضره ومستقبله وإنقاذ شعبه من عبث سياسييه. ذلك أن التباطؤ في اتخاذ القرارات الحاسمة في الوقت المطلوب يكون من نتائجه الارتباك وتعقد المشهد، وهو بالضبط مثل العملية الجراحية التي يحتاج إليها المريض فوراً ويؤجلها الطبيب باستمرار إلى أن يستشرى المرض في أجزاء الجسد الهزيل.

في العالم العربي أكثر من منظمة إقليمية من المفترض أن تكون رائدة في ضبط التوازن بين الدول الأعضاء، لكنها تحولت إلى مجرد مبانٍ ضخمة فيها عدد ضخم من الموظفين الذين تختلف كفاءاتهم ولهم مزايا مالية مجزية، لكن الواقع يثبت أن المردود الحقيقي لنشاطات هذه المؤسسات لا يتناسب مع الآمال التي كان الناس يعقدونها عليها. ولجامعة الدول العربية عدد من المؤسسات التي تستنزف أموالاً ضخمة لا طائل من ورائها سوى التوظيف، ولكنها على المستوى العملي كانت من دون إنجاز يُحسب لها طيلة عقود من الزمن.

خلال السنوات التي سبقت الغزو العراقي للكويت، وبعدها، لم تتمكن الدول الأعضاء في الجامعة العربية من اتخاذ موقف موحد من قضية لم يكن واجباً الاختلاف في شأنها، وذهب كل قُطر في طريق يتناسب مع إرادته السياسية المستقلة. وشاهدنا، قبل ذلك، السابقة الفريدة التي تمثلت في طرد مصر من الجامعة العربية بسبب اتفاق السلام الذي وقعه الرئيس المصري الراحل أنور السادات مع رئيس وزراء إسرائيل 1978 بحضور الرئيس الأميركي جيمي كارتر. وعلى الرغم من القرار الجماعي في الجامعة العربية فإن ثلاث دول امتنعت عن تطبيقه (سلطنة عمان والسودان والصومال) وأبقت سفراءها في القاهرة.

هناك أيضاً الاتحاد المغاربي الذي لم يتمكن من تحقيق أي إنجاز على أي صعيد كان، لأن النزاعات السياسية والحدودية بين أعضائه أكثر تعقيداً وترتبط بعوامل إقليمية ودولية أكثر حضوراً في الأزمات.

ثم هناك مجلس التعاون الخليجي الذي تمكن من “النأي بالنفس” في الخلافات التي عصفت بين عدد من دوله، ولم يكن له دور حقيقي في فك عقدها. لكن، يُحسب له أن الامتيازات التي تم إقرارها قبل الأزمة لم تتأثر بصورة جماعية، فظل هناك حد أدنى من التماسك على المستوى الشعبي. لكن سياسياً تجمد دوره، وتوقفت اجتماعاته لفترة ليست بالقصيرة إلى أن قرر ولي العهد السعودي محمد بن سلمان اتخاذ الخطوة الأولى في العلا، لكسر الجمود والانتقال إلى مرحلة قد تشكل قاعدة يمكن البناء عليها بصبر لمواجهة مخاطر كثيرة تعصف بالمنطقة من كل الاتجاهات.

بلغت الخلافات بين بعض دول المجلس حد التنافس على النفوذ في أقطار عربية مجاورة، مما عقد الأزمات وتكلفتها بدلاً من التعاون لفك طلاسمها والدفع نحو إيجاد حلول جماعية لمشاكلها. واليوم، تستطيع دول المجلس مجتمعة إيجاد مداخل لاستعادة الهدوء والاستقرار الذي تحتاج إليه المنطقة كلها، بعد أن تيقن الجميع أن المسارات السياسية هي الأجدى والأسلم والأكثر ديمومة والأعم فائدة للمواطنين جميعهم مهما توهم البعض أن القوة وحدها قادرة على الحسم.

لقد استنزفت الحروب في المنطقة مئات المليارات من الأموال التي كانت كافية لنشر الرخاء في ربوعها، وما زالت الفرصة سانحة لإحداث تنمية بشرية حقيقية هي وحدها السلاح الجاد لمواجهة النفوذ الإيراني وغيره في المنطقة.

نقلا عن اندبندنت عربية