إشكاليات مستمرة:
دوافع ومآلات تصاعد الخلافات بين الجزائر وأسبانيا

إشكاليات مستمرة:

دوافع ومآلات تصاعد الخلافات بين الجزائر وأسبانيا



رغم بوادر الانفراجة التي كانت قد لاحت في أُفق العلاقات بين الجزائر وأسبانيا، في نوفمبر الماضي، مع تواتر الأنباء عن عودة السفير الجزائري إلى مدريد، بعد 19 شهراً من مُغادرته، تعبيراً عن الخلافات بين البلدين؛ إلا أن تلك الانفراجة قد تراجعت خطوات إلى الوراء في إثر تعليق الزيارة التي كان سيقوم بها وزير الخارجية الأسباني، خوسيه مانويل ألباريس، إلى الجزائر، في 12 فبراير الجاري.

وفي الوقت الذي كان من المفترض أن تنهي فيه زيارة ألباريس عامين من القطيعة، بين الجزائر وأسبانيا، فإن تأجيلها قد أعاد إلى الأذهان التساؤلات حول دوافع ومآلات استمرار الخلافات بين البلدين؛ خاصة أن تأجيل الزيارة، أو تعليقها بالأحرى، جاء بطلب من السلطات الجزائرية، بسبب “عدم حسم بعض الملفات التي كان مُقرراً طرحها للمباحثات خلال الزيارة”، بحسب بيان وزارة الخارجية الجزائرية.

وكما يبدو، فإن الملفات المقصودة، تلك التي أدت إلى اتساع نطاق الخلافات بين البلدين، من أهمها: الموقف الأسباني من قضية الصحراء، وتأثير ذلك على كيفية تعامل وسائل الإعلام الأسبانية مع الملف نفسه. هذا فضلاً عن الاستياء الجزائري من تنامي العلاقات الأسبانية-المغربية.

ومن الطبيعي أن استمرار الخلافات بهذا الشكل يفرض تداعيات متعددة، في مقدمتها الخسائر الاقتصادية التي تطال الجانبين، جراء إيقاف الجزائر لكافة التعاملات التجارية مع أسبانيا. بالإضافة إلى المحاولات المستمرة للجزائر في الضغط على الأخيرة، لتغيير موقفها من قضية الصحراء، سواء الضغط عن طريق الغاز، أو التوقيت الذي تم فيه تعليق الزيارة.

أسباب رئيسية

تتعدد الأسباب التي أدت إلى تفاقم الخلافات بين الجزائر وأسبانيا، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:

1- الموقف الأسباني من قضية الصحراء: وهى القضية الرئيسية في الخلافات العالقة بين البلدين، طوال الفترة السابقة، التي بدأت منذ 8 يونيو 2022. وقد كان مُقرراً أن تأخذ زيارة وزير الخارجية الأسباني شكل “تطبيع” للعلاقات الثنائية بعد القطيعة بينهما تجارياً وسياسياً، وبعد سحب السفير الجزائري من مدريد، وتعليق اتفاق “الصداقة وحسن الجوار” الموقع بينهما في عام 2002.

واللافت أن هذه القطيعة في العلاقات كانت قد جاءت كـ”نتيجة” لإعلان رئيس الوزراء الأسباني، بيدرو سانشيز، عن تغيير الموقف الإسباني من قضية الصحراء، والتوجه إلى دعم مبادرة “الحكم الذاتي” التي طرحتها المغرب كحل للمشكلة، وهو ما اعتبرته الجزائر انحيازاً أسبانيا إلى الجانب المغربي.

2- تعامل وسائل الإعلام الأسبانية مع القضية: تأتي مسألة تأجيل زيارة ألباريس إلى الجزائر، كتعبير عن الاستياء الجزائري من عدم التغير في الموقف الأسباني من قضية الصحراء. رغم ذلك، فهو ليس السبب الوحيد؛ حيث يأتي ضمن أسباب التأجيل واستمرار الخلافات بين الجانبين تعامل وسائل الإعلام الأسبانية مع قضية الصحراء.

فقد نشرت وسائل إعلام أسبانية وثيقة من الجريدة الرسمية الأسبانية، تصف مدينة “العيون” كبرى مدن الصحراء بـ”المغربية”؛ وهو ما اعتبرته الجزائر اعترافاً أسبانيا بمغربية الصحراء، على نحو كان له دور في تأجيل الزيارة التي كان من المفترض أن يتم من خلالها مناقشة موقف مدريد من قضية الصحراء. وكما يبدو، فإن الجزائر كانت تُريد المُقايضة بين إعلان أسبانيا بشكل صريح عودتها إلى موقفها الأول من القضية، في مُقابل رفع الحظر عن المبادلات التجارية.

3- تطور العلاقات بين أسبانيا والمغرب: ترى الجزائر أن محاولة أسبانيا التقارب مع المغرب تمثل نوعاً من الدعم لموقفها في قضية الصحراء، وفي قضية الغاز النيجيري أيضاً، وهو الغاز الذي تتنافس عليه كل من الجزائر والمغرب لتوصيله إلى أوروبا، عبر مشروعين منفصلين “الطريق العابر للصحراء” الجزائري، وأنبوب “غاز الرباط – أبوجا” المغربي.

واللافت في هذا السياق، أن التقارب الأسباني-المغربي لا يعتمد فقط على مسألة الغاز
 الذي تستورده أسبانيا من الجزائر، بعد أن رفعت الأخيرة أسعاره “ثلاث” مرات وفقاً لتقارير عديدة؛ ولكن أيضاً الرغبة الأسبانية في طرح ملف ترسيم الحدود البحرية مع المغرب، وإنهاء مشكلات هذا الملف عبر التفاهمات السياسية بين الرباط ومدريد.

تداعيات محتملة

يمكن أن تفرض الخلافات بين الجزائر وأسبانيا تداعيات عديدة يتمثل أبرزها في:

1- تزايد الخسائر الاقتصادية المزدوجة: ساهمت القطيعة بين البلدين، طوال حوالي عشرين شهراً، في خسائر كبيرة للمؤسسات ورجال الأعمال في كل منهما؛ وهي الخسائر التي تم تقديرها تبعاً لبعض التقارير بحوالي مليار يورو، منذ بدء الأزمة إلى منتصف العام الماضي.

وبحسب الخبير الاقتصادي الجزائري، رمضاني لعلا، في حوار مع “إندبندنت عربية”، في 5 نوفمبر الماضي، فإن التبادلات البينية بين الجزائر وأسبانيا تتراوح سنوياً بين 7-9 مليارات دولار، وهي أرقام مهمة من منظور دلالتها الاقتصادية. هذا فضلاً عن أنّ الجزائر تُعتبر الشريك الثاني لأسبانيا فيما يتعلق بإمدادات الغاز، ولكن مع مراجعة الأسعار من جانب الجزائر، فقد تكلف الاقتصاد الأسباني خسائر بلغت 100 مليون دولار.

هذا بالإضافة إلى الخسائر التي تكلفها الاقتصاد على الجانب الآخر، حيث اضطرت الجزائر إلى تغيير وجهات الاستيراد، بخصوص بعض المنتجات كالدواجن والبيض وغيرهما، بما تسبب في ظاهرة الندرة والغلاء المتزايد في السوق الجزائرية لعديد من السلع.

2-  تغيير الشراكة الاستراتيجية في الغاز لإيطاليا: يأتي قرار الجزائر بتوجيه الشراكة الاستراتيجية المتعلقة بالغاز الجزائري نحو إيطاليا بدلاً من أسبانيا، كنوع من ممارسة الضغط على مدريد، لأجل تغيير موقفها من قضية الصحراء؛ وهي مسألة سوف تستمر خلال الأجل المنظور، خاصة أن الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون كان هو من أعلن بنفسه أن “إيطاليا ستكون الموزع الرئيسي للغاز الجزائري إلى أوروبا” خلال مؤتمر صحفي مع نظيره الإيطالي سيرجيو ماتاريلا أثناء زيارته روما في 27 مايو 2022.

3- استغلال توقيت الزيارة للضغط على مدريد: رغم أن تأجيل زيارة وزير الخارجية الأسباني إلى الجزائر، قبل موعدها بأقل من 12 ساعة فقط، يُمثل خرقاً واضحاً للأعراف الدبلوماسية؛ إلا أن هذا التأجيل كان ضمن أدوات الضغط الجزائري على مدريد.

ويبدو ذلك من ملاحظة توقيت الزيارة وتأجيلها أو تعليقها، خاصة أنه يأتي مع اقتراب محطة انتخابية رئيسية وحاسمة تختص باقتراب انتخابات البرلمان الأوروبي وتأثيراتها على أسبانيا، والتي أفرزت الصراع الناشب حالياً بين مكونات التشكيلة الحكومية، التي يترأسها رئيس الوزراء الأسباني سانشيز.

فضلاً عن ذلك، فإنّ التأجيل يأتي كذلك في نهاية الأسبوع الذي شهد تقديم أوراق اعتماد السفير الأسباني إلى المغرب، وهي دلالة على مسألة الضغوط الجزائرية المتواصلة على مدريد، في محاولة لدفع الأخيرة إلى تغيير موقفها من قضية الصحراء.

مركزية الملف

على ضوء ذلك، يُمكن القول إن استمرار الخلافات بين الجزائر وأسبانيا إنما يعتمد في أهم مرتكزاته على قضية خلافية رئيسية تتعلق بموقف الأخيرة من قضية الصحراء، ودعمها مبادرة “الحكم الذاتي” التي اقترحتها المغرب. وفضلاً عن التقارب الجغرافي بين البلدين من حيث كونهما “جارين متوسطين”؛ فإن المصالح الأمنية المشتركة، خاصة تلك المتعلقة بملف الهجرة غير الشرعية، تأتي كملف إضافي إلى مجموع الملفات التي تحاول بها الجزائر الضغط على مدريد، بما يؤكد على مدى مركزية ملف الصحراء في السياسة الخارجية الجزائرية.