ترتيبات استباقية:
دوافع وتداعيات إعادة التموضع الإيراني في سوريا

ترتيبات استباقية:

دوافع وتداعيات إعادة التموضع الإيراني في سوريا



بشكلٍ مفاجئ وفي أعقاب الزلزال الذي ضرب سوريا في 6 فبراير الجاري، قامت إيران بإخلاء العديد من مقراتها العسكرية في مناطق بدير الزور والبوكمال والميادين، وجرى تسليم تلك المواقع للجيش السوري. ورغم عدم وضوح الدوافع الفعلية وراء عملية إعادة التموضع الإيراني التي لا تزال جارية، لكن يعتقد-إلى حد كبير-أنها تهدف إلى مواكبة التطورات السياسية والأمنية التي تشهدها الساحة السورية، بما يعزز من النفوذ والتواجد العسكري الإيراني في سوريا أكثر مما كان عليه الأمر في السابق.

سياسياً، أدى اتجاه روسيا لإحداث نوع من التقارب بين تركيا والنظام السوري في الآونة الأخيرة إلى مسعى إيراني للتداخل مع هذا المسار، وعلى إثر ذلك ظهر انفتاح إيراني-تركي على تنسيق الترتيبات بحكم أن النظام السوري يمثل قاسماً مشتركاً فيها. فمن وجهة النظر الإيرانية، يمكن أن تقوم طهران بعملية إعادة الانتشار في مناطق إدلب وحلب والشمال الشرقي السوري بالنيابة عن النظام، وبالتزامن مع تلك الخطوة أجّلت أنقرة عملية عسكرية واسعة كانت تستعد لخوضها ضد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، كما أرجأ الزلزال الذي طال كلاً من تركيا وسوريا خطة أنقرة بشأن تلك الترتيبات.

على العكس من ذلك، يبدو أن إيران لن تؤخر خطة إعادة الانتشار، وربما تسعى إلى انتهاز فرصة انهماك أنقرة في التعاطي مع تداعيات الزلزال، بالإضافة إلى أنها تسعى في الوقت ذاته إلى استغلال دورها في تقديم الدعم للنظام السوري لمواجهة تداعيات الزلزال أيضاً، حيث تتخذ من عملية نقل المساعدات غطاءاً لمزيد من الحركة على الساحة السورية، وبالتالي تقوم بترتيبات استباقية تتوازى مع انشغال روسيا في حربها على أوكرانيا، واستغلال فرصة التعاون العسكري المشترك مع موسكو في هذه الحرب في جنى المزيد من المكاسب على الساحة السورية.

آليات رئيسية

في كل مرة يحدث فيها تغير على الساحة السورية، تقوم إيران بعملية إعادة انتشار بالتنسيق مع الجانب الروسي، فقبل الوصول إلى تفاهمات سوتشي 2019 بين روسيا وتركيا–والتي لم تكن إيران طرفاً فيها-بنحو شهرين، كان الحرس الثوري والمليشيات الموالية له، على غرار حزب الله والمليشيات العراقية إضافة إلى المليشيات الباكستانية والأفغانية (زينبيون – فاطميون)، قد أعادت تمركزها العسكري في جنوبي شرق سوريا مع التركيز على اتجاهين: الضفة الشرقية لنهر الفرات للضغط على مناطق نفوذ “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، ومحور الحدود العراقية-السورية المشتركة، لتسهيل عمليات نقل الأسلحة، والضغط من جانب آخر على قاعدة “التنف” الأمريكية.

وبعد نحو ثلاثة أعوام على الاتفاق الذي يبدو أنه لم يعد قابلاً للصمود أكثر من ذلك، حيث تعتبر تركيا أنه لم يحقق أهدافها الاستراتيجية، بدعوى أن استمرار الدعم الأمريكي لـ”قسد” يحبط نتائجه، وفي ظل غياب تفاهم تركي–أمريكي حول هذا الملف؛ استمرت أنقرة في التعاطي مع الملف بنفس قواعد اللعبة التقليدية من حيث التصعيد في مواجهة “قسد”، وربما تستفيد من التقارب مع النظام السوري في تنفيذ هذه الخطة، لا سيما مع إعادة اللاجئين إلى المناطق التي يمكن أن تخصمها من مناطق سيطرة “قسد”.

تحركات جديدة

أعلنت وسائل الإعلام الرسمية الإيرانية، في 24 فبراير الجاري، أن إيران ستقدم دعماً عسكرياً إلى النظام السوري، يتمثل في عدد من الدفاعات الصاروخية ومنظومة “خرداد 15″، وذلك في أعقاب زيارة قام بها وزير الدفاع السوري علي محمود عباس إلى طهران في 24 يناير الفائت. وفي حين لم تُشر دمشق إلى أنها طلبت من إيران تزويدها بتلك الأسلحة، يعتقد أن الأخيرة تسعى إلى تزويد نفسها بتلك الأسلحة لمواجهة الانكشاف الدفاعي الذي تتعرض له في سوريا، وهو ما قد يفسر دوافع عملية الانسحاب من بعض المناطق داخل الأخيرة.

ما يدعم هذه الفرضية أن النظام السوري ليس هدفاً في حد ذاته من الجانب الإسرائيلي، وهو ما حاولت إسرائيل التأكيد عليه عندما أعلنت عن أن روسيا طلبت منها أن تقدم دعماً لمساعدة دمشق بعد تعرضها للزلزال، وأنها بصدد تقديم هذا الدعم عبر موسكو. ورغم نفى دمشق للأمر، إلا أنه يكشف عن موقف تل أبيب من النظام وأن خصمها في سوريا الذي يدفعها باستمرار إلى الهجوم عليه بالصواريخ هو إيران. وفي مقابل ذلك، فإن الأخيرة قد تكون بحاجة إلى تغطية جوية للتصدي للهجمات الإسرائيلية التي تتعرض لها في سوريا، والمتوقّع أنها ستنشر تلك الأسلحة في المواقع التي ستعيد الانتشار فيها بشكل رئيسي.

انعكاسات محتملة

ربما تفرض هذه التطورات الميدانية والسياسية تداعيات عديدة على الساحة السورية، يتمثل أبرزها في:

1- تفاقم حدة التصعيد الإسرائيلي-الإيراني: على الرغم من تنامي مؤشرات التصعيد خلال المرحلة السابقة، إلا أن إعلان إيران أنها تسعى إلى توجيه إمدادات ذات طابع دفاعي في سوريا يتوقع معه زيادة مستوى هذا التصعيد، خاصة أن المناطق التي تجري فيها عملية إعادة الانتشار تعتبرها إسرائيل مناطق غير مسموح فيها بالتمركز الإيراني الذي قد يشكل تهديداً لها.

2- توسع نطاق المواجهة خارج الحدود السورية: تسعى إيران إلى مواصلة المواجهة مع إسرائيل خارج حدودها، بل ربما تحاول عدم الاستسلام في تلك المواجهة. وبينما ترى إيران أن إسرائيل تقترب منها وأصبح بإمكانها تطوير اختراقها لساحتها على نحو ما يعكسه توجيه طهران اتهامات لتل أبيب بالضلوع في الهجوم الذي تعرضت له منشأة عسكرية في أصفهان في 29 يناير الفائت؛ فإن إيران تسعى إلى التقدم أكثر على الساحة السورية لمحاصرة إسرائيل، وزيادة مستوى التهديد من خلال تلك الساحة، بالتوازي مع استهداف المصالح الإسرائيلية في مناطق أخرى متفرقة.

3- التوصل إلى تفاهمات إسرائيلية–تركية: في الوقت الذي كانت تعمل فيه إيران على ترتيب الأوضاع مع تركيا، سعت إسرائيل هى الأخرى إلى التقارب مع الأخيرة، وقدّمت لتركيا دعماً أيضاً خلال أزمة الزلزال، وبالتالي من المتصور أنّ معادلات العلاقة بين الأطراف الثلاثة ستشهد تفاعلات جديدة ستشكلها مصالح الأطراف على الساحة السورية، مع الأخذ في الاعتبار أن هذه التفاعلات الجديدة ستتأثر بحسابات الأطراف الثلاثة مع روسيا.

فعلى سبيل المثال، هناك موقف روسي من دعم إسرائيل لأوكرانيا، يدفع تل أبيب نحو تقارب أكثر مع تركيا، بالإضافة إلى أن التعاون الروسي-الإيراني في الساحة الأوكرانية يقوي موقف إيران في سوريا على نحو ما سلفت الإشارة إليه.

4- تصاعد الضغوط على النظام السوري: من المتصور أن تعزيز إيران لتواجدها العسكري في سوريا يتعارض مع مسار التقارب العربي مع النظام السوري في ظل انفتاح العديد من الدول العربية لدعم سوريا بعد أزمة الزلزال، وهو ما يُفيد النظام الذي يوشك على الخروج من عزلته العربية. ورغم ذلك، من المتصور أن النظام لا يزال مقيداً بالتحالف الاضطراري مع طهران التي تشكل عبئاً عليه في المرحلة الحالية، ليس فقط من زاوية التقارب العربي، ولكن أيضاً من زاوية أن النظام يدفع ثمن حسابات إدارة طهران ومليشياتها لصراعها مع إسرائيل.

خطوة مضادة

في الأخير، يمكن القول إن إيران تُعيد تموضعها العسكري في سوريا في إطار حسابات المواجهة مع إسرائيل، خاصةً وأن طهران تراقب عن كثب تنامي التعاون الدفاعي الأمريكي–الإسرائيلي، والذي تجلت مظاهره مؤخراً في زيادة عدد المناورات العسكرية، وتحسين وضع إسرائيل الدفاعي في حال تعرضت لهجمات إيرانية من سوريا أو لبنان، وبالتالي تقوم إيران بخطوة مضادة هي الأخرى لبناء دفاعات تحصن من تواجدها العسكري على الساحة السورية من جهة، وتمنحها القدرة من جهة أخرى على استهداف إسرائيل كردع مضاد وفقاً للحسابات الإيرانية.