تأمين البقاء:
دوافع عمليات “التتريك” في الشمال السوري

تأمين البقاء:

دوافع عمليات “التتريك” في الشمال السوري



عاد الجدل مجدداً حيال سياسة “التتريك” التي تنتهجها تركيا في شمال سوريا بتهديدها بشن عملية عسكرية جديدة، بالتوازي مع إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في بداية مايو الفائت، عن خطة لإعادة مليون سوري إلى بلادهم، لا سيما إلى المناطق الآمنة التي وفرتها تركيا منذ بدء عملياتها العسكرية في شمال سوريا عام 2016. وتستهدف تركيا من وراء هذه السياسة محاصرة خصومها الأكراد، وتعزيز تواجدها الاقتصادي، إضافة إلى تحييد الضغوط الدولية والإقليمية المناهضة لمصالحها في الشمال السوري، وموازنة التمدد الإيراني.

تسعى تركيا مجدداً إلى تعزيز نفوذها في شمال سوريا من خلال توفير بيئة خصبة لذلك في مدن عفرين والباب وجرابلس وأعزاز وغيرها، والتي تسيطر عليها تيارات المعارضة السورية الموالية لها. وتعمل أنقرة في هذا التوقيت، وبالتزامن مع تهديدها بشن عملية عسكرية جديدة، على إعادة تأهيل الخدمات الأساسية من الكهرباء والتعليم والصحة بمدن شمال سوريا بالتعاون مع الشركات التركية الخاصة. وفيما يبدو، فإن تركيا تحاول من خلال هذا الحضور تحقيق أهداف عديدة ترتبط برؤيتها لموقعها على الساحة السورية خلال المرحلة القادمة، خاصة مع استمرار مساعي تسوية الأزمة السورية، وانخراط قوى إقليمية وعربية في تعزيز العلاقات مع نظام الرئيس بشار الأسد.

ولا ينفصل ذلك من دون شك، عن إصرار تركيا على إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، حيث قال فيليب لوكلير ممثل المفوضية السامية لشئون اللاجئين في تركيا، في 21 يونيو الجاري، أن 800 سوري يعودون من تركيا إلى بلادهم أسبوعياً، دون أن تتوافر البيئة المناسبة لاستقبالهم. وبدأت تظهر تحذيرات من إمكانية انفجار “قنبلة ديموغرافية” في سوريا نتيجة هذه السياسة التي تتبعها تركيا والتي تدعم من خلالها عملية “التتريك” في شمال سوريا.

أدوات مختلفة

تستخدم تركيا في تفعيل تلك السياسة آليات عديدة يتمثل أبرزها في:

1- السعى إلى تغيير التوازنات الديموغرافية: نجحت تركيا في توظيف العمليات العسكرية التي قامت بها منذ عام 2016، فضلاً عن التهديد بعملية جديدة في الوقت الحالي، لدفع الأكراد إلى النزوح من الشمال السوري، حيث أشارت تقديرات عديدة إلى أن العمليات العسكرية التركية أسفرت عن نزوح ما بين 300 ألف و350 ألف مدني كردي من المناطق التي يتواجدون فيها. وقد تعمدت أنقرة ملء الفراغ عبر استقدام نازحين من العرب والتركمان في مناطق سورية مختلفة للاستقرار في تلك المنطقة.

2- تعزيز الارتباط بالاقتصاد التركي: عملت تركيا على ربط مناطق الشمال السوري بالاقتصاد التركي، حيث سعت عبر أذرعها المحلية إلى إعادة تأهيل البنية التحتية وتوفير الخدمات الأساسية في هذه المناطق، كما باتت الليرة التركية هى العملة الرسمية فيها. لذلك، يُضطر السوريون في المناطق الخاضعة للسيطرة التركية إلى تسجيل آلاف الشركات في تركيا لضمان توزيع منتجاتهم.

بالتوازي مع ذلك، وسعت تركيا من نطاق مشاركة الشركات التركية في مد المدن السورية بالطاقة، حيث أبرمت ما يسمى بـ”حكومة الإنقاذ” المعارضة في سوريا اتفاقيات عديدة مع شركات تركية لتجهيز خطوط الكهرباء ومدها بالطاقة الكهربائية في كل أنحاء محافظة إدلب. وبدأت شركة Green Energy “الطاقة الخضراء” التركية، بعد الانتهاء من تأسيس محطات تحويل وخط توتر، في مد مدن إدلب بالتيار الكهربائي. لكن اللافت في هذا الصدد، هو أن احتكار الشركات التركية لإمدادات الطاقة الكهربائية في تلك المنطقة بدأ يثير استياء السكان، خاصة بعد اتجاه تلك الشركات إلى رفع أسعار خدماتها، على نحو تسبب في اندلاع احتجاجات في مدن أعزاز وصوران وريف عفرين في بداية يناير الماضي.

3- منح دور أكبر لمنظمات الإغاثة: تستعين تركيا ببعض منظمات الإغاثة الإنسانية من أجل تنفيذ مخططاتها في شمال سوريا، على غرار “هيئة الإغاثة الإنسانية” التي تساهم في تقديم مساعدات غذائية، كما أعلنت، في 22 فبراير الماضي، أنها شاركت في بناء 18 ألف وحدة سكنية في المناطق التي تسيطر عليها الفصائل الموالية لتركيا في شمال سوريا.

أهداف رئيسية

تسعى أنقرة عبر تبني تلك السياسة إلى تحقيق أهداف عديدة يمكن تناولها على النحو التالي:

1- تقليص مساحة الوجود الكردي: لا تنفصل هذه السياسة عن محاولات أنقرة استباق أى تحرك دولي من أجل إضفاء شرعية على الوجود الكردي في تلك المنطقة عبر تعزيز فرص حصول الأكراد على حكم ذاتي بشكل ترى أنه يهدد أمنها واستقرارها في الصميم. ومن هنا، فإنها تتحرك باستمرار من أجل تقليص مساحة الأراضي التي يسيطرون عليها عبر التهديد بشن عملية عسكرية جديدة في تلك المناطق.

2- توسيع نطاق الحضور الاقتصادي: ترى أنقرة أن وجودها في شمال سوريا، على المستويات المختلفة، يمكن أن يعزز من قدرتها على احتواء تداعيات الأزمة الاقتصادية التي تواجهها في الوقت الحالي، والتي بدت مؤشراتها جلية في خسارة الليرة أكثر من 40% من قيمتها أمام الدولار. ومن هنا، فإنها بدأت تعتبر أن مناطق الشمال السوري تمثل سوقاً لتصريف المنتجات التركية من ناحية وساحة بديلة للشركات التركية المتعثرة من ناحية أخرى.

3- مواجهة التحركات الإقليمية والدولية المضادة: أثارت العمليات العسكرية التي تشنها تركيا باستمرار في الشمال السوري استياء القوى الإقليمية والدولية المنخرطة في الملف السوري. ومن هنا، فإن أنقرة اعتبرت أن توسيع نطاق وجودها في تلك المناطق يوفر لها ورقة ضغط في مواجهة هذه القوى، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، اللتين كان لافتاً أنهما توافقتا على رفض التحركات التركية في تلك المناطق رغم الخلافات العديدة العالقة بينهما سواء في سوريا أو في أوكرانيا.

4- موازنة مساعي التمدد الإيرانية: رغم حرص تركيا على عدم تصعيد حدة خلافاتها مع إيران حول ملفات عديدة، إلا أنها تبدي قلقاً إزاء محاولات التمدد الإيرانية في سوريا على كافة الأصعدة، لا سيما عقب انتهاء مرحلة الصراع العسكري وتغير توازنات القوى لصالح النظام السوري. ويبدو أنها تعتبر أن هذه التحركات تهدف إلى تعزيز موقع إيران في عملية إعادة صياغة الترتيبات الأمنية والسياسية في سوريا، على نحو دفعها إلى اتخاذ خطوات جديدة في عملية “تتريك” مناطق الشمال السوري، لتجنب إضعاف موقعها في تلك الترتيبات خلال المرحلة القادمة.

تداعيات محتملة

ختاماً، يمكن القول إن تركيا تبذل جهوداً مستمرة، سواء بشكل مباشر عبر عملياتها العسكرية، أو غير مباشر من خلال الوكلاء، من أجل تعزيز نفوذها في سوريا، على نحو يمكن أن يفرض تداعيات سلبية على حالة الاستقرار داخل الأخيرة، خاصة لجهة دعم فرص تصاعد حدة التوتر بين المكونات العرقية إلى جانب الفصائل المسلحة المختلفة، لا سيما في ظل سعى كل القوى المنخرطة في الملف السوري إلى الحفاظ على وجودها داخل سوريا خلال المرحلة القادمة.