يسعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال زيارته للجزائر، في 25 أغسطس الحالي، إلى إجراء مباحثات حول العديد من الملفات التي ترتبط بالطاقة وإمدادات الغاز، فضلاً عن ملف “الذاكرة”. كما يبحث عن توسيع عمل شركات التنقيب عن النفط والغاز، وتوقيع اتفاقيات تتعلق بزيادة الإمدادات. وبذلك، تستهدف الزيارة محاولة تأسيس علاقات اقتصادية قوية مع الجزائر، في ظل الأزمة التي تواجهها فرنسا، وأوروبا عموماً، جراء الصراع المفتوح مع روسيا بشأن إمدادات الغاز والنفط.
بعد حوالي خمسة أشهر من تلقيه دعوة من نظيره الجزائري عبد المجيد تبون، غداة انتخابه لولاية رئاسية ثانية، في أبريل الماضي، يحل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ضيفاً على الجزائر، في 25 أغسطس الجاري. وتأتي هذه الزيارة في ظرف استثنائي وخاص في مسيرة العلاقات الجزائرية-الفرنسية، التي تتأرجح بين التقارب تارة والتباعد تارات أخرى، بما يطرح تساؤلاً حول أهداف الزيارة في هذا التوقيت، ونوعية الملفات المطروحة على مائدة الحوار الجزائري-الفرنسي، خاصة أن الزيارة لن تستغرق سوى يوم واحد.
إشكاليات سياسية
مرة واحدة قام فيها ماكرون بزيارة الجزائر، في بداية ولايته الرئاسية الأولى، في ديسمبر 2017، وذلك بعد أشهر من زيارته لها كمرشح للرئاسة، أطلق خلالها تصريحات، وُصفت بالقوية، قال فيها: “إن الاستعمار ارتكب جرائم ضد الإنسانية”.
رغم ذلك، لم تتوانَ الجزائر، في سابقة هي الأولى من نوعها، في أبريل 2021، عن تقديم تقرير رسمي مفصل للأمم المتحدة حول “ضحايا ألغام الاستعمار الفرنسي في الجزائر”، حيث واصلت حصد المزيد من الضحايا حتى بعد استقلال البلاد، بعد 132 عاماً من الاحتلال الفرنسي للجزائر (1830 – 1962). في هذا التقرير، قدمت الجزائر أرقاماً ومعطيات مفصلة عن حجم الخسائر البشرية التي تسببت فيها الألغام المضادة للأفراد، التي زرعتها فرنسا في الأراضي الجزائرية، عقب اندلاع ثورة التحرير (1954 – 1962).
هذا التقرير يأتي كواحد من الملفات العالقة بين الجزائر وفرنسا، تلك التي تُمثل أهم الإشكاليات السياسية التي تسببت في تذبذب العلاقات بين الجانبين. فمنذ سنوات، يجري التفاوض بين الطرفين بشأن أربعة ملفات تاريخية عالقة: أولها، الأرشيف الجزائري الذي ترفض السلطات الفرنسية تسليمه. وثانيها، استرجاع جماجم قادة الثورات الشعبية (الموجودة بـ”متحف الإنسان” بالعاصمة الفرنسية باريس). وثالثها، تعويض ضحايا التجارب النووية، التي أجرتها فرنسا في الصحراء الجزائرية (بين عامي 1960 – 1966). ورابعها، استجلاء مصير المفقودين خلال ثورة التحرير (عددهم ألفان و200 مفقود حسب السلطات الجزائرية).
بيد أن فرنسا لم تتجاوب مع أىٍ من المطالب الجزائرية، عدا تسليم أول دفعة من جماجم ورفات رموز المقاومة الشعبية ضد الاستعمار، في عام 2020. واللافت أن زيارة ماكرون هذه المرة تأتي بعد أزمات حادة تفجرت بين البلدين. كانت الأولى، في سبتمبر الماضي، إثر تقليص باريس حصة تأشيرات السفر الممنوحة للجزائريين، بذريعة عدم تعاون الجزائر في إعادة مهاجريها غير النظاميين. فيما كانت الأخرى، في أكتوبر الماضي، بعد أن شكك ماكرون في وجود “أمة جزائرية” قبل الاستعمار الفرنسي، واتهم النظام الجزائري باستغلال ملف الذاكرة لأغراض سياسية.
حسابات متداخلة
رغم الملفات العالقة بين الجزائر وفرنسا، ومع أن الزيارة هذه المرة تأتي بعد فترة توتر بين البلدين، فإن مخاوف فرنسا من استمرار تراجع مصالحها الاقتصادية في الجزائر، تأتي في مقدمة العوامل الدافعة لزيارة ماكرون.
فالتوتر في العلاقات الذي وصل، في العام الماضي، إلى حد استدعاء السفير الجزائري لدى باريس، ومنع الجزائر مرور الطيران العسكري الفرنسي إلى الساحل الأفريقي في مجالها الجوي؛ ساهم في خسارة فرنسا أكثر من 12 مليار دولار منذ عام 2018، فضلاً عن “التراجع الرهيب” لنفوذها الاقتصادي في بلد كان يوصف بـ”الجنة الخلفية” لاقتصاد فرنسا. وبالتالي، فإن هناك حسابات اقتصادية وراء زيارة ماكرون، أهمها ما يلي:
1- التأثير الاقتصادي المتبادل بين الجزائر وفرنسا: تظل الجزائر، وفقاً لرؤية فرنسا، “دولة استثنائية”، من منظور أن 10 بالمائة من سكان فرنسا جزائريو الأصل، ويعادل عددهم حوالي 7 ملايين نسمة، فضلاً عن أن عدد الفرنسيين المقيمين في الجزائر يتجاوز 41 ألف نسمة.
فضلاً عن ذلك، فإن فرنسا تستثمر في الجزائر ما لا يقل عن 1.8 مليار يورو، وتحتل المرتبة الأولى من بين المستثمرين في مجالات خارج المحروقات. أما وارداتها من الجزائر فتصل إلى 5 مليارات يورو، حسب أرقام 2016، وما تزال تدور حول هذا الرقم حتى الآن؛ وبذلك تحتل فرنسا المرتبة الثانية بين “زبائن” الجزائر التي تستورد من فرنسا ما تصل قيمته بين 3 إلى 4 مليارات يورو، بما يعني أن حجم التبادل التجاري بين البلدين يتراوح بين 8 إلى 10 مليارات يورو.
وبالنظر إلى هذا الحجم الكبير من التعاون الجزائري–الفرنسي في مختلف المجالات، الاقتصادية والتقنية والتعليمية، والاستثمارات، والروابط العائلية الإنسانية؛ يبدو بوضوح عدم قدرة الجانبين على “فك الارتباط”، وهو ما يعني إمكانية التأثير الاقتصادي المتبادل بينهما؛ إذ تستطيع فرنسا التأثير سلباً على مصالح الجزائر داخل المنظومة الأوروبية، التي يبلغ حجم التبادل التجاري الجزائري معها نحو 45 مليار دولار سنوياً، بما فيها التبادل التجاري مع فرنسا، وذلك من منظور الدور المحوري والقيادي الذي تلعبه فرنسا داخل الاتحاد الأوروبي.
2- محنة الطاقة وحرب النفوذ في الساحل الأفريقي: يمكن القول إن ثمة أسباباً عديدة وراء التحرك الفرنسي النشط مؤخراً تجاه القارة الأفريقية عموماً، والجزائر ومنطقة الساحل الأفريقي على وجه الخصوص؛ منها داخلية على غرار الأزمة الاقتصادية التي تواجهها فرنسا، ومحنة الطاقة، وأيضاً خارجية يتقدمها ضعف الاتحاد الأوروبي الذي أصبح هشاً وغير قادر على دعم أعضائه، الأمر الذي دفع الرئيس ماكرون مؤخراً للبحث عن ورقة رابحة في أفريقيا.
ورغم أن فرنسا، بفضل سياستها في تنويع مصادر الطاقة، تعتبر أقل تأثراً بمعضلة توفير الإمدادات مقارنة مع عدد من الدول الأوروبية الأخرى مثل إيطاليا وإسبانيا، إضافة لألمانيا؛ إلا أن إغراء المصالح الاقتصادية ومتطلبات دورها التاريخي ونفوذها التقليدي يجعل باريس في وضع حرج، في ظل منافسة شرسة في منطقة الساحل وجنوب الصحراء، خصوصاً مع روسيا والصين.
وقبل أقل من أسبوعين، استفاد العملاق الفرنسي الناشط في مجال الطاقة “توتال”، من صفقة مجزية مشتركة مع العملاق الإيطالي “إيني” والشركة الأمريكية “أوكسيدونتال”، لإنتاج النفط والغاز في حقل بجنوب شرق الجزائر، بقيمة تعادل أربعة مليارات دولار.
وإذا كان هذا يساهم في إنجاح زيارة الرئيس ماكرون إلى الجزائر؛ فهو في الوقت نفسه يدفع إلى المقدمة الملف الخاص بما يمكن تسميته “حرب النفوذ”؛ حيث تتخوف فرنسا من تراجع حصة مصالحها بالجزائر ومنطقة الساحل لصالح الصين التي تعد أكبر مستثمر في أفريقيا، وهى القارة التي ستكون انطلاقة نهوض الاقتصاد العالمي مستقبلاً.
3- تراجع الفرانكفونية وزيادة حدة الملفات الإقليمية: يتخوف الفرنسيون من زوال الفرانكفونية وتراجع اللغة الفرنسية، بعد العزوف عنها على مستوى عدد من الدول الأفريقية، التي كانت موطناً لنشرها في السابق. فالجزائر -كمثال واضح- يتجه قطاع التعليم فيها إلى “سحب البساط” من اللغة الفرنسية، واستبدالها بالإنجليزية؛ بعد أن أصدر الرئيس تبون قراراً بتدريسها لتلاميذ المرحلة الابتدائية، بدءاً من العام الدراسي المقبل.
وهذا يتكامل مع عدد من الملفات الإقليمية، التي ازدادت حدتها في الآونة الأخيرة، وتُمثل معادلة صعبة في العلاقات الجزائرية-الفرنسية، خصوصاً ما يتعلق بالمصالح الاقتصادية والاستراتيجية؛ منها ملف الصحراء الغربية والعلاقات مع المغرب، ومنها أيضاً مستوى التصورات الاستراتيجية للأمن في منطقة جنوب المتوسط والساحل الأفريقي، المنطقة الغنية بالمواد الأولية والثروات الطبيعية والأراضي البكر للاستثمار في المستقبل.
ثم يأتي ملف صادرات الغاز الجزائري، الذي يضع فرنسا وعدداً من الشركاء الأوروبيين مثل إيطاليا وإسبانيا وألمانيا، أمام ضغوط متزايدة، ولا سيما في ظل تداعيات حرب أوكرانيا، والصراع المفتوح مع روسيا حول إمدادات الغاز والنفط.
تعاون مشروط
لا تعاون اقتصادي دون توافق سياسي. ربما تكون هذه هي القاعدة التي تنبني عليها زيارة ماكرون إلى الجزائر؛ إذ إن الصفقات المقبلة التي ستعقب الزيارة ستكون مسبوقة بالحديث عن ملفات سياسية رئيسية ما تزال عالقة بين الجانبين، يتصدر هذه الملفات موضوع التأشيرة، وملف الهجرة غير الشرعية. أما ملف “الذاكرة”، ومطالبة الجزائر باعتذار رسمي فرنسي عن تجاوزات مرحلة الاستعمار، فسوف يظل ضمن الملفات العالقة بين الجانبين. وفيما يبدو، فإن إثارة الملفات الاقتصادية، وعلى رأسها الغاز، وإمكانية توقيع شراكات استثمارية وتجارية جديدة بين الجانبين، يعتمد على مدى التوافق في هذه الملفات السياسية العالقة.