في أول زيارة مُعلنة له إلى روسيا، وأول زيارة له خارج المنطقة العربية منذ زلزال 6 فبراير الفائت، اجتمع الرئيس السوري بشار الأسد مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في موسكو، في 15 مارس الجاري، وذلك في إطار الجهود التي تبذلها موسكو لعقد اجتماع لنواب وزراء خارجية روسيا وإيران وتركيا وسوريا، لدفع مسار تطبيع العلاقات بين دمشق وأنقرة.
وتُثير هذه الزيارة العديد من التساؤلات حول دوافعها، خاصة أنها تمت بناءً على دعوة من الرئيس الروسي، فضلاً عن كونها تأتي في سياق التأزم الاقتصادي في الداخل السوري، إضافة إلى التحركات الدولية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط خلال الآونة الأخيرة، والتي كان آخرها زيارة رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة الجنرال مارك ميلي إلى مناطق تواجد القوات الأمريكية في الشمال السوري، في 4 مارس الجاري.
أهداف رئيسية
في بداية الاجتماع الذي بثه التليفزيون الروسي، في 15 مارس الجاري، رحب بوتين بـ”تطور” العلاقات بين موسكو ودمشق، وأكد أن روسيا “تواصل تقديم المساعدات الإنسانية لسوريا، بعد الزلزال الذي ضربها وتركيا الشهر الماضي”. ومن جهته، أبلغ الرئيس السوري نظيره الروسي بأنه “يتوقع نتائج اقتصادية ملموسة، في أول زيارة مُعلنة لموسكو، منذ بدء الحرب في أوكرانيا”. كما أبدى ترحيبه بأى مقترحات من روسيا لإقامة قواعد عسكرية جديدة أو زيادة عدد قواتها في سوريا.
واللافت أن إشارة الرئيس السوري حول النتائج الاقتصادية التي يتوقعها من خلال زيارته إلى موسكو، وإن كانت تُحدد أحد أهم أهداف الزيارة؛ إلا أنها -في الوقت نفسه- لا تلغي أن هناك عدة أهداف أخرى وراء هذه الزيارة المُعلنة في هذا التوقيت، خاصة أن الأسد كان قد قام من قبل بأربع زيارات إلى موسكو وسوتشي، في الأعوام 2015 و2017 و2018 و2021، إلا أنها جميعاً تمت بشكل “غير مُعلن”.
ويُمكن الإشارة إلى أهم الأهداف التي تقف خلف الزيارة وتوقيتها كما يلي:
1- تأكيد أهمية الدور الروسي في سوريا: ساهمت الحرب الروسية-الأوكرانية في “التراجع النسبي” لاهتمام موسكو بملف الأزمة السورية، لا سيما على المستوى العسكري؛ وهو التراجع الذي انعكس في انخفاض نشاط القوات الروسية في العديد من المناطق السورية. ورغم أن هذا التراجع لا يُعبر عن تغيير فعلي بشأن إدارة روسيا لمعظم أبعاد الأزمة، حيث لا تزال تتحكم في أهم مفاعيلها على الأرض؛ إلا أن زيارة الرئيس السوري تأتي لتؤكد على أهمية ومحاولة تفعيل الدور الروسي في سوريا، باعتبارها المتغير الرئيسي في تغير توازنات القوى لصالح النظام السوري خلال السنوات السبع الأخيرة.
ويبدو ذلك بوضوح عبر تأكيد الأسد أثناء الاجتماع على أن “هذه الزيارة ستمهد لمرحلة جديدة في العلاقات السورية-الروسية، على كل المستويات”. ولعل ذلك ما يُفسر تعمد موسكو تسريب معطيات الزيارة قبل أن تتم بأيام، وهو ما يحمل رسائل إقليمية ودولية عدة، من بينها ما يعكس تغير الأوضاع حول روسيا، وآليات تعاملها مع الملفات الإقليمية ومع “الأصدقاء” في المنطقة، بعد الحرب في أوكرانيا؛ فضلاً عما تبديه، وإن بشكل غير مباشر، من الاهتمام بالانفتاح العربي على القيادة السورية.
2- محاولة تقليص حدة الضغوط الغربية: لا ينفصل اجتماع الرئيسين، بوتين والأسد، عن المساعي الروسية والسورية لمواجهة الضغوط التي يتعرض لها الجانبان من جانب الدول الغربية. ومن ثم تأتي زيارة الأسد إلى موسكو في محاولة لتخفيف حدة الضغوط الغربية على بلاده، خاصة في ظل الانشغال الروسي الواضح بالحرب في أوكرانيا. فهذا الانشغال سيدفع روسيا في ظل امتداد أمد تلك الحرب إلى التركيز على معالجة أزماتها الداخلية، بما يترتب على ذلك من ترك سوريا دون غطاء سياسي واقتصادي، في مهب المواجهة مع أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
وبالتالي، تأتي هذه الزيارة في إطار محاولة الحصول على أكبر قدر من المساعدات الإنسانية بعد الزلزال المدمر الذي تعرضت له المناطق الشمالية من سوريا، فضلاً عن طلب المساهمة في حل أزمة الوقود التي تتعرض لها سوريا؛ الأمر الذي سيفرض على دمشق تحديات داخلية تتمثل في رفعها الأسعار الخاصة بالمشتقات النفطية، إلى جانب التأثيرات التي سوف تلحق بقيمة الليرة السورية، من حيث قدرتها الشرائية، وبما يُنذر باعتراضات وتمردات اجتماعية في مناطق عدة.
3- حلحلة بعض المشكلات الاقتصادية الداخلية: تشهد مناطق سيطرة النظام أزمة محروقات في الفترة الأخيرة، بالإضافة إلى ارتفاع الأسعار بشكل مستمر جراء الضغوط الإيرانية المتعلقة برفع سعر المنتجات النفطية. وكما ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال”، في منتصف يناير الماضي، فقد “ضاعفت إيران من السعر الذي كان يدفعه النظام السوري مقابل الحصول على النفط الخام”. ووفق ما نقلته الصحيفة، فإن “خط الائتمان الذي سمح لسوريا في السابق بالدفع لاحقاً، سرعان ما استنفد بعد أن رفعت إيران السعر من معدل 30 دولاراً للبرميل، مما دفع طهران إلى فرض رسوم مُسبقة مقابل تزويد النظام بالنفط”.
وبالتالي، تأتي الزيارة كمحاولة لحلحلة بعض مشكلات التأزم الاقتصادي، في الداخل السوري، عبر طلب الدعم الروسي، من خلال المساعدات الإنسانية، وإمدادات الوقود، وجذب الاستثمارات إلى سوريا، وقضايا التجارة الثنائية؛ ولعلّ هذا ما يعبر عن المغزى الحقيقي من إشارة الرئيس السوري إلى أنه “يتوقع نتائج اقتصادية ملموسة، من أول زيارة مُعلنة لموسكو”.
4- التفاهم حول إشكاليات التقارب مع تركيا: تُعد زيارة الأسد إلى روسيا الأولى من نوعها بعد الحديث عن تقارب سوري-تركي بوساطة روسية، بدأ بلقاء وزراء الدفاع الروسي والتركي والسوري بالعاصمة موسكو، في 28 ديسمبر الماضي. ورغم أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، كان قد أعلن، في 15 ديسمبر الماضي، أنه اقترح على نظيره الروسي عقد اجتماع ثلاثي بمشاركة الأسد، على أن تسبق هذه القمة مفاوضات على مستوى ممثلي الأجهزة الأمنية ووزراء الدفاع والخارجية، إلا أنّ النظام السوري يبدو غير متحمس للتقارب مع أردوغان، حتى لا يكون هذا التقارب “ورقة رابحة” يستفيد منها الأخير في الانتخابات التركية بمنتصف مايو القادم؛ إذ يعتبر النظام السوري أن المعارضة التركية هي الأقرب إليه من أردوغان. كما أن الرئيس السوري اشترط انسحاب القوات التركية من شمال البلاد قبل عقد أى لقاء مع نظيره التركي.
إلا أن الملاحظ أن روسيا خلافاً للنظام السوري هي أكثر ميلاً وتقبلاً لفوز الرئيس التركي بالانتخابات المقبلة، وترغب -في الوقت نفسه- بتحقيق تقدم في مسار التقارب التركي-السوري. ومن ثم يتمثل أحد أهداف زيارة الأسد إلى موسكو في التفاهم حول إشكاليات هذا التقارب ومساراته، خاصة أن القوات التركية ما تزال تسيطر على بعض المناطق بالشمال السوري؛ هذا رغم أن النظام السوري يعي تماماً أن النتيجة المثالية بالنسبة إلى موسكو، الغارقة في حرب أوكرانيا، تتمثل في ذلك التقارب المنشود، من حيث إن تركيا يمكن أن تلعب دوراً حاسماً في حلحلة الصراع الحاصل على الأرض السورية.
خطوة تمهيدية
في هذا السياق، يمكن القول إن زيارة الرئيس السوري إلى موسكو ولقاءه نظيره الروسي، وإن كانت تأتي في إطار التنسيق المشترك والمستمر بين الجانبين؛ إلا أنها تُمثل من حيث التوقيت خطوة تمهيدية لتحقيق عدد من الأهداف الخاصة بالإمكانات الروسية في حلحلة الأزمة السورية، والتخفيف من تداعياتها خصوصاً على مستوى التأزم الاقتصادي في الداخل السوري، وهو ما لا ينفصل عما يستند إليه النظام في سوريا، مما تُمثله بلاده من رصيد مهم بالنسبة إلى روسيا، سواء عبر استخدامه في المفاوضات مع تركيا وإيران وإسرائيل أيضاً، أو في أي موضوع للسجال الاستراتيجي المحتمل مستقبلاً مع الولايات المتحدة الأمريكية.