أجرى حاكم إقليم دارفور ورئيس حركة جيش تحرير السودان مني أركو مناوي، زيارة رسمية لدولة تركيا في الفترة من 1 إلى 6 ديسمبر الجاري، وقد أجرى مناوي خلال زيارته لأنقرة عدداً من الاجتماعات، من بينها اجتماع مع نائب وزير الخارجية التركي، ومع إدارة التعليم، إلى جانب مؤسسة “تيكا” التركية و(AFAD) لإدارة الكوارث؛ حيث يهدف مناوي إلى توثيق العلاقات الدفاعية والأمنية الثنائية مع أنقرة في ضوء تصاعد الحرب السودانية، وتقدم قوات الدعم السريع باتجاه إقليم دارفور، بجانب تعزيز المساعدات الإغاثية التركية لسكان الإقليم الذي يعاني تدهوراً لافتاً في الأوضاع الإنسانية والمعيشية، كما تأتي هذه الزيارة في الوقت الذي طرحت فيه حركة جيش تحرير السودان الخروج عن مبدأ الحياد والانحياز للجيش في صراعه مع قوات حميدتي.
أبعاد جوهرية
ثمة أبعاد وسياقات معقدة تتقاطع مع زيارة أركو مناوي إلى تركيا، وعلى رأسها مواجهة تنامي تهديدات قوات الدعم السريع لإقليم دارفور، وتعزيز مكانة الإقليم في معادلة الصراع السوداني الراهن. ويمكن تناول أبرز هذه السياقات على النحو التالي:
1- تنامي سيطرة الدعم السريع على محافظات دارفور: تتصاعد مخاوف حركة جيش تحرير السودان من التطورات الميدانية على الأرض، خاصة في ظل استمرار تقدم قوات الدعم السريع باتجاه عاصمة إقليم دارفور “الفاشر”، وسيطرتها على غالبية المدن والقرى القريبة منها. وتمثل الفاشر أولوية استراتيجية لدارفور، كونها العاصمة السياسية والإدارية للإقليم، ناهيك عن كونها تشكل مركز ثقل الحركات المسلحة، ولا سيما حركة تحرير السودان، وسقوطها بيد الدعم السريع سيعني انتهاء نفوذ تلك الحركات، وهو ما يفسر ردود فعلها على مسألة اقتحام الدعم للمدينة. بالتوازي، فإن ثمة قلقاً من عدم قدرة قوات مناوي على التصدي لعناصر الدعم السريع التي تتمتع بقدرة تنظيمية كبيرة، بالإضافة إلى امتلاك جانب معتبر من الآليات العسكرية الأكثر تطوراً.
2- تفاقم أزمة اللاجئين والنازحين إلى شرق دارفور: تمثل قضية النازحين صداعاً مزمناً لدى سلطة إقليم دارفور، خاصة في ظل عدم القدرة على تلبية احتياجاتهم بسبب كثافة أعداد اللاجئين والنازحين. وبحسب تقديرات محلية في دارفور، فقد ارتفعت أعداد الفارين بولاية شرق دارفور إلى أكثر من 80 ألف نازح بسبب القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. كما شهدت مدينة نيالا، بولاية جنوب دارفور، اشتباكات عنيفة بين طرفي الصراع، وهو ما أدى إلى نزوح آلاف المواطنين إلى مدينة الفاشر ومناطق أخرى.
3- زيادة الضغوط المعيشية الداخلية: يواجه إقليم دارفور مع تفاقم حدة الصراع في السودان ضغوطاً اقتصادية ومعيشية نتيجة نقص السلع الغذائية، بالإضافة إلى التناقص الحاد في مخزون الحبوب، وتدهور الإنتاج الزراعي بسبب الحرب، وهو ما يجعل الإقليم يقف على حافة مجاعة مؤكدة، خاصة مع تعثر عمل المنظمات الإنسانية والخيرية، وتوقف أنشطة البعض منها. وتسببت الأوضاع المعيشية في الضغط على أعصاب حكومة الإقليم الذي لا يملك مخزوناً غذائياً، بالإضافة إلى الارتدادات السلبية لعملية اللجوء على النظام الصحي في الإقليم.
4- التوجّه نحو استقطاب الخارج: يسعى طرفا الصراع في السودان إلى استقطاب الدعم الخارجي، من خلال تعزيز تحالفاتهما الإقليمية والدولية، خاصة مع عجز أي منهما عن حسم المعركة الميدانية. وهنا، جاءت زيارة مناوي لتركيا لتحصين إقليم دارفور من مخاطر الصراع السوداني. ويعي مناوي أن توجه أطراف الصراع نحو الخارج، يقتضي منه هو الآخر تأسيس تحالفات مع القوى الإقليمية التي تمتلك رصيداً في السودان، ولديها مصالح معتبرة، وفي الصدارة منها أنقرة التي تسعى لاستعادة نفوذها في السودان. كما يبقى التعاون مع أنقرة ملحاً خلال المرحلة المقبلة، بعد اتفاق حركة جيش تحرير السودان في نوفمبر الماضي، مع حركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، على مغادرة محطة الحياد ومواجهة قوات الدعم السريع، التي سيطرت على 3 ولايات في دارفور بشكل كامل.
دوافع محركة
ثمّة العديد من الاعتبارات التي تقف وراء زيارة مناوي لتركيا، على النحو التالي:
أولها: قلق أركو مناوي على مستقبل إقليم دارفور، وتصاعد تخوفات حركة جيش تحرير السودان وحلفائها من التحركات التي تقوم بها قوات الدعم السريع وتستهدف السيطرة على الفاشر عاصمة إقليم دارفور، ومن ثم تهميش النفوذ السياسي للمجموعات السودانية الحاكمة للإقليم، وعلى رأسها أركو مناوي. وهنا، يمكن فهم تحركات الأخير باتجاه تركيا التي تمثل قوة وازنة في الإقليم، ويمكن أن تشكل ظهيراً لحركة جيش تحرير السودان. ويبدو أن زيارة مناوي حظيت باهتمام أنقرة، خاصةً أنها تسعى لضمان استعادة نفوذها في السودان، ولعلّ هذا ما قد يفسر اللقاء الذي جمع مناوي مع عدد معتبر من قادة الأجهزة والمؤسسات التركية.
وثانيها: يرتبط برغبة مناوي في توسيع دائرة التحالفات مع العالم الخارجي، وذلك في ظل تصاعد حدة الاستقطاب الخارجي للأزمة السودانية، وذلك بتطوير العلاقات الإيجابية مع القوى الإقليمية الفاعلة والأطراف الفاعلة في المنطقة، وفتح آفاق جديدة للتعاون مع تركيا وتوسيع نطاقه. وتستغل تركيا في ذلك محاولات القوى السياسية الفاعلة في السودان لترسيخ نفوذها في السودان من جهة، وكسب المزيد من الحلفاء في الدول الأفريقية لترسيخ نفوذها في أفريقيا من جهة أخرى.
وثالثها: أن زيارة مناوي لتركيا لا تنفصل عن رغبته في تأمين المساعدات الإنسانية التركية للإقليم الذي يواجه أزمة إنسانية، وذلك من خلال دفع تركيا لزيادة أنشطة وكالة “تيكا” الخيرية داخل إقليم دارفور. وهنا، يمكن فهم تصريحات مناوي عشية زيارته لأنقرة، حيث أكد على جهود أنقرة في مساعدة السكان المحليين والنازحين في دارفور.
ورابعها: يرتبط -في جانب منه- باحتمال طلب مناوي دعم أنقرة العسكري والسياسي في مواجهة التطورات الميدانية في إقليم دارفور. ويبدو إقليم دارفور مهدداً باتساع رقعة المواجهات العسكرية مع قوات الدعم السريع التي تسعى لفرض سيطرتها أمنياً على الإقليم. وفرضت هذه التحديات نفسها بقوة على الأجندة الأمنية لزيارة مناوي إلى تركيا، وقد عبرت تصريحات مناوي بشأن أهمية تطوير العلاقات الأمنية مع تركيا عن ذلك بوضوح.
وخامسها: يعود إلى رغبة مناوي في الاستفادة من دعم أنقرة التي تُبدي حرصاً لافتاً على توسيع نفوذها في القارة السمراء عموماً، والسودان بوجه خاص. وتأتي تطلعات مناوي في ضوء الروابط والعلاقات التي تربط أنقرة مع حركة جيش تحرير السودان.
تقارب محكوم
ختاماً، يمكن القول إن زيارة مناوي برغم نجاحاتها في تعزيز التقارب الحاصل بين أنقرة وحركة جيش تحرير السودان، بالإضافة إلى تحقيق اختراق بشأن استمرار المساعدات الإنسانية التركية لإقليم دارفور؛ لا تعني اتفاق الطرفين على تعزيز التعاون الأمني والسياسي، خاصة أن تركيا وإن كانت حريصة على استعادة نفوذها في السودان، فإنها غير حريصة على الانخراط في الأزمة السودانية أو الانحياز إلى أيٍّ من مكوناتها.