تصاعد الحديث، خلال الأيام الأخيرة من يناير 2024، عن خطة تركية لإرسال مرتزقة سوريين إلى النيجر؛ إذ كشف المرصد السوري في 27 يناير الفائت عن بدء الاستخبارات التركية العمل على تجهيز دفعة جديدة من المرتزقة السوريين المنخرطين في الفصائل الموالية لها في الداخل السوري، وبخاصة فصيل السلطان مراد، للالتحاق بمهام قتالية في النيجر غرب أفريقيا، مقابل الحصول على 1500 دولار شهرياً، وذلك تحت إشراف مباشر من العسكريين الأتراك.
ويعكس هذا السلوك سعي تركيا لتوسيع حضورها في القارة الأفريقية عموماً، وتكريس وجود دائم في منطقة غرب أفريقيا بشكل خاص، بالإضافة إلى مزاحمة نفوذ دول منافسة وفي مقدمتها: فرنسا، وروسيا، والصين، والولايات المتحدة. ويبدو أن الخطوة التركية لا تنفصل عن استثمار التطورات في النيجر، وفتور علاقاتها مع القوى الغربية بعد الإطاحة برئيس النيجر محمد بازوم في يوليو 2023. وهنا، يُثار التساؤل بشأن أبعاد توجه أنقرة نحو الإشراف على إرسال مرتزقة إلى النيجر.
سياقات مستجدة
يأتي التوجه التركي نحو دعم سياسات إرسال المرتزقة السوريين إلى النيجر في ضوء سياقات مستجدة، يمكن بيانها كالتالي:
1- الانسحابات المتتالية من الإيكواس: جاءت الخطوة التركية بالتزامن مع إعلان “المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا”، في 28 يناير 2024، انسحاب كل من بوركينافاسو ومالي والنيجر من صفوفها. وجاء قرار الانسحاب بعد اتهام الدول الثلاث للمنظمة بالابتعاد عن القيم التي تركها الآباء المؤسسون للإيكواس، فضلاً عن وقوع المنظمة تحت تأثير القوى الأجنبية، في إشارة إلى الغرب، وفرنسا على وجه التحديد.
ومع تصاعد أعمال العنف المسلح داخل الدول الثلاث، وانعدام الأمن بصورة لافتة، بالإضافة إلى تحديات اقتصادية جمة، واضطرابات سياسية؛ اتهمت الدول الثلاث “إيكواس” بعدم مساعدتها في حربها الوجودية ضد الإرهاب. وكان التوتر بين الدول الثلاث وإيكواس قد وصل إلى الذروة بعد سيطرة الجيش في النيجر على السلطة في العام الماضي، وقبلها في مالي عام 2020، وفي بوركينافاسو في عام 2022.
2- إتمام الانسحاب العسكري الفرنسي من غرب أفريقيا: غادرت القوات الفرنسية التي تُقدر بنحو 1500 جندي وطيار النيجر في نهاية ديسمبر 2023، لتنهي إمساك باريس بمفاصل المؤسسة الأمنية في النيجر لأكثر من عشر سنوات، وسلّمت فرنسا القاعدة الجوية المؤقتة “نيامي” إلى السلطات الجديدة. وجاء هذا الانسحاب بعد توتر على مدى شهرين مع السلطات العسكرية الحاكمة التي ألغت العمل بعدد من اتفاقيات التعاون العسكري مع باريس.
3- كثافة الوجود الروسي في غرب أفريقيا: تزامنت الخطوة التركية بإرسال مقاتلين مرتزقة إلى النيجر في ظل كثافة الانخراط العسكري الروسي في غرب أفريقيا، التي تمثل أولوية استراتيجية لتركيا. وتتصاعد المخاوف التركية من تغلغل النفوذ الروسي في غرب أفريقيا، وزاد قلق أنقرة بعد زيارة رئيس وزراء النيجر، علي محمد الأمين زين، موسكو في مطلع يناير 2024، في إطار السعي لتعزيز التعاون، فضلاً عن إعلان بوركينافاسو في 28 يناير الفائت عن وصول مجموعة من الجنود الروس إلى البلاد، وصفتهم بأنهم “مدربون يأتون في إطار تعزيز التعاون العسكري والاستراتيجي”. وتجدر الإشارة إلى تعيين بوركينافاسو في ديسمبر الماضي سفيراً لها في موسكو، كما افتتحت روسيا سفارتها في واغادوغو نهاية الشهر نفسه، بعد 3 عقود من الإغلاق.
4- التحايل على ضغوط أستانة: تأتي الخطوة التركية لتجهيز دفعة من المرتزقة السوريين تمهيداً لإرسالها إلى النيجر، في سياق الضغوط عليها خلال الجولة الـ21 من اجتماعات مسار أستانة، التي استضافتها العاصمة الكازاخية في 24 يناير 2024 بحضور وفود البلدان الثلاثة المنخرطة في اجتماعات أستانة (روسيا، وتركيا، وإيران) وممثلي الحكومة والمعارضة في سوريا. وتعرّضت أنقرة لضغوط من القوى المشاركة بضرورة تفكيك الفصائل المسلحة الموالية لها في الداخل السوري، والتي تمثل تياراً عسكرياً موازياً للجيش السوري الرسمي. وفي هذا السياق، يبدو أن أنقرة تسعى إلى إعادة توظيف عناصر المرتزقة السوريين الذين يدينون بالولاء الأيديولوجي لها في مناطق نفوذها الخارجي، فضلاً عن ارتباطهم بشكل مباشر مالياً وتنظيمياً بالنظام التركي.
5- استمرار حالة القلق في النيجر: لا ينفصل التوظيف التركي للمرتزقة السوريين عن الرغبة في دعم نظام نيامي الحاكم، وتوفير قوة عسكرية مستترة لتأمين سيطرة المجلس العسكري على مفاصل الدولة. ويتمتع المرتزقة السوريون بالخبرة القتالية والاحترافية التي قد تبدو مفيدة لمواجهة العنف في النيجر، بالإضافة إلى قدرتهم على إنجاز المهام الموكلة لهم بدقة. ويُشار إلى أن المرتزقة السوريين يمتلكون تخصصات قتالية مختلفة، بما في ذلك تشغيل الدبابات وقطع المدفعية والطائرات بدون طيار والمركبات القتالية المدرعة، وذلك بفضل التدريبات التي يخضعون لها تحت إشراف الجيش التركي.
اعتبارات متعددة
ثمة العديد من الدوافع التي تتقاطع مع أهداف تركيا نحو تكثيف تحركاتها بحسب المراقبين والتقارير الإعلامية من أجل إرسال المرتزقة السوريين إلى النيجر، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:
1- توسيع النفوذ التركي في غرب أفريقيا: تكشف خطة إرسال تركيا لمرتزقة سوريين إلى النيجر عن سعيها المستمر إلى تطوير وترسيخ حضورها في غرب أفريقيا، وذلك من خلال توظيف آليات غير مباشرة، في الصدارة منها الاستعانة بالمقاتلين غير الرسميين، وتعزيز أدوارهم. واللافت للنظر أنه برغم متانة الحضور الاقتصادي والعسكري التركي في أفريقيا؛ إلا أنّ أنقرة تعي أن تصاعد الاضطرابات الأخيرة في غرب أفريقيا، وبخاصة النيجر بعد إطاحة الرئيس السابق بازوم، وسعي عدد من خصوم تركيا الإقليميين والدوليين لمحاصرة تحركاتها الرسمية في غرب أفريقيا، فإنها تسعى إلى الاقتراب من بعض حكومات غرب أفريقيا، ومنها النيجر، خاصة في خضم الضغوط التي يواجهها المجلس العسكري في نيامي من القوى الغربية، وبخاصة فرنسا، وكذلك مجموعة إيكواس التي لا تزال تصف السلطة الجديدة في النيجر بــ”الانقلاب العسكري”.
2- موازنة نفوذ موسكو في غرب أفريقيا: لا تنفصل التحركات التركية لإرسال مرتزقة سوريين إلى النيجر، عن رغبتها في موازنة منافسيها على الساحة الأفريقية، وبخاصة موسكو التي تمكنت خلال المرحلة الأخيرة من تحقيق اختراقات واسعة في دول غرب أفريقيا، خاصة بعد إعلان روسيا في 8 يناير 2024 تأسيس ما أسمته “الفيلق الأفريقي” ليكون بديلاً عن مجموعة “فاجنر” الروسية الخاصة، ويثير هذا البرنامج قلق أنقرة، إذ يكشف عن سعي روسيا لتوسيع نفوذها العسكري في القارة الأفريقية، وبخاصة في مناطق التماس التركية، وظهر ذلك في جعل ليبيا نقطة الاستناد الاستراتيجية للتحركات التركية في أفريقيا ومقراً مركزياً للفيلق.
3- دعم سياسات تآكل نفوذ الخصوم الغربيين: تكشف الخطوة التركية عن اهتمام تركي متزايد بالعلاقة مع دول غرب أفريقيا، ومنها النيجر، خاصة في ظل استمرار القضايا الخلافية بين أنقرة والقوى الغربية، وفي الصدارة منها واشنطن، بسبب الدعم الأمريكي للأكراد السوريين، ورفض لحاق أنقرة بالاتحاد الأوروبي، ناهيك عن فتور العلاقات التركية الغربية بسبب الحرب على غزة، وغضب أنقرة بسبب الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل، فضلاً عن انتقادها التبني الأوروبي للسردية الإسرائيلية لتبرير الهجوم على غزة.
في هذا السياق، يمكن فهم التحركات التركية الأخيرة نحو النيجر، والتي تستهدف في جانب معتبر منها استثمار تراجع حضور القوى الغربية، وبخاصة باريس وواشنطن، في دول الساحل والصحراء بشكل كبير خلال الشهور الأخيرة، ولا سيما بعد انسحاب القوات الفرنسية في ديسمبر الماضي من النيجر. ويعكس التقارب الحالي بين أنقرة والنيجر لدفع العلاقات العسكرية وحصول الأخيرة على المسيرات التركية، رغبة أنقرة في تسريع وتيرة حضورها في غرب أفريقيا على حساب تآكل النفوذ الغربي. وهنا، يمكن فهم تأكيد تركيا حرصها على دعم وتطوير التعاون مع النيجر في مختلف المجالات. وعلى صعيد متصل، فإن تركيا ربما تريد توظيف ورقة المرتزقة السوريين كوسيلة للرد على الانتقادات الموجهة للعمليات العسكرية التركية الراهنة ضد قوات سوريا الديمقراطية “قسد” شمال شرق سوريا، والتي تعتبرها أنقرة “إرهابية” وامتداداً لحزب العمال الكردستاني.
4- تأمين المصالح الحيوية في ليبيا: يرتبط إرسال تركيا لمرتزقة سوريين إلى النيجر في جانب منه بحسابات تتعلق بأهمية تعزيز الارتباط والتعاون مع النيجر الدولة الحدودية مع ليبيا التي تمتلك فيها تركيا عدداً هائلاً من المصالح الحيوية. وتعي تركيا أن تأمين العلاقة مع المجلس العسكري الحاكم في النيجر في التوقيت الحالي يمثل أولوية، خاصة مع تصاعد الاهتمامات الدولية والمحلية بحل سياسي للأزمة الليبية. وتقع النيجر على مرمى حجر من ليبيا. ولذلك، فإن ثمّة قناعة تركية بأن دعم النظام العسكري في نيامي يسمح للأتراك بسهولة توفير بيئة خصبة لتأمين دعم التيارات الموالية لها في الداخل الليبي. وعلى صعيد ذي شأن، فإن الوجود التركي في النيجر يوفر فرصة لتركيا للتأثير على مقاربات خصومها في ليبيا، وبخاصة فرنسا وروسيا.
ارتدادات مزدوجة
ختاماً، يمكن القول إن التقارير التي كشفت عن تحركات تركية لإرسال مرتزقة إلى النيجر، بقدر ما تسمح لتركيا بتعزيز انتصاراتها الاقتصادية والدفاعية في دول غرب أفريقيا، إلا أن هذه الخطوة قد تحمل في طياتها ارتدادات سلبية على العلاقات التركية الغربية، ناهيك عن كونها قد تعزز حالة عدم الاستقرار في دول الساحل.