تحركات استباقية:
دوافع توجّه تركيا لتوحيد سلطة المجالس المحلية بالشمال السوري

تحركات استباقية:

دوافع توجّه تركيا لتوحيد سلطة المجالس المحلية بالشمال السوري



ظهرت في الفترة الأخيرة مؤشرات على توجّه تركيا نحو تبني سياسة جديدة حيال إدارة عمل ومهام الفصائل الموالية لها في الداخل السوري من خلال إعادة صياغة علاقاتها مع المجالس المحلية في مناطق شمال سوريا الخاضعة لنفوذها، وهو ما عكسته وسائل إعلام تركية كشفت عن عزم أنقرة تعيين حاكم (والي) واحد لمناطق العمليات العسكرية (درع الفرات، غصن الزيتون، نبع السلام)، ليكون مسئولاً عن التواصل مع الجهات الحكومية التركية، بالإضافة إلى تسهيل عملية اتخاذ القرارات على مستوى هذه المناطق، لضمان تنفيذ مخطط “العودة الطوعية” للاجئين السوريين. ويبدو أن ثمّة قناعة تركية بأهمية تنفيذ هذا الإجراء لإنهاء الارتباك الذي تسبب فيه تعيين 7 ولاة لإدارات المجالس المحلية.

مستجدّات مغايرة

تأتي الخطوة المعلنة من جانب أنقرة في سياق مستجدات محلية في مناطق النفوذ التركي شمال سوريا، وتطورات إقليمية مغايرة، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:

1- تعثر التطبيع التركي-السوري: تراجعت فرص التطبيع التركي-السوري، وهو ما كشفه إعلان الرئيس السوري بشار الأسد خلال مقابلة تلفزيونية معه، في 9 أغسطس الجاري، عن أنه “لن يجتمع مع نظيره التركي بشروطه”، مضيفاً: “إن هدف الرئيس التركي هو شرعنة وجود الاحتلال التركي في سوريا”.

والواقع أن تعثر التطبيع التركي-السوري يعود إلى استمرار القضايا الخلافية بين البلدين، فبينما تطالب أنقرة بضرورة إدماج المعارضة السورية في العملية السياسية، وإعادة تعديل اتفاقية أضنة بما يسمح لها بالتدخل في الأراضي السورية بعمق 35 كم بدلاً من 5 كم لملاحقة حزب العمال الكردستاني؛ تصر دمشق في المقابل على انسحاب تركيا من الأراضي السورية كشرط للتعاون معها.

2- تسريع وتيرة عودة اللاجئين: تأتي خطوة إعادة صياغة العلاقة وبناء نظام جديد بين تركيا والمجالس المحلية في مناطق الشمال السوري، ومنها إعزاز وجرابلس والباب وتل أبيض ورأس العين، في إطار جهود تركية مستمرة لدعم المجالس المحلية في مناطق النفوذ لتوفير بيئة خصبة لعودة اللاجئين السوريين، ووقف الهجرة خارج الحدود، وذلك من خلال إنشاء العديد من المشاريع للحفاظ على أمن المنطقة، وتوفير بنية تحتية، ومرافق خدمية، تشمل الإسكان والمدارس والمستشفيات، وتغطي مختلف المجالات من الزراعة إلى الصناعة.

وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن ثمة تقديرات محلية تركية كشفت عن صدور تعليمات من الرئيس رجب طيب أردوغان لتأسيس آلية ثلاثية من أجهزة الدولة التركية، منوط بها تسريع جهود العودة الطوعية للاجئين السوريين إلى بلادهم، بالتركيز على التنمية الاقتصادية والاجتماعية في محافظة حلب بشمال غربي سوريا، فيما يُعرف بـ”نموذج حلب”. وتركز هذه الآلية على تحقيق مجموعة من الأهداف، منها إنعاش الحياة الاقتصادية والتجارية في المناطق التي تم تطهيرها في شمال سوريا، وتشجيع رجال الأعمال -بمن فيهم الأتراك- على إقامة مشروعات ومصانع ومنشآت هناك لتوفير فرص عمل للعائدين.

وتمثل قضية اللاجئين ورقة ضاغطة على الحكومة، حيث تركز المعارضة التركية على أن هذه القضية من أسباب الأزمة الاقتصادية في البلاد، وأن ثمة فشلاً في مواجهة هذه الأزمة، وأن الموقف غير السليم الذي تبنته الدولة في الصراع السوري هو الذي سمح باستضافة هذا العدد الكبير من اللاجئين. وبالتالي، يسعى أردوغان إلى إيجاد حل لهؤلاء النازحين وإعادتهم من خلال توفير بيئة مواتية في الداخل السوري تحفزهم للعودة.

3- مواجهة تحركات الجيش السوري: لا ينفصل الإعلان عن توحيد نظام الإدارة في المناطق السورية المنضوية تحت النفوذ التركي عن رغبة أنقرة في توحيد جهود الفصائل الموالية لها لمواجهة تحركات النظام السوري، حيث تصاعدت في الآونة الأخيرة الاستهدافات المتبادلة بين الفصائل الموالية لتركيا والجيش السوري في ريفي حلب وإدلب، كان آخرها في 20 أغسطس الجاري، عندما قصفت المدفعية التركية نقطة عسكرية تابعة للجيش السوري في منطقة دوخار بريف منبج شرقي حلب.

4- ممارسة ضغوط على روسيا: يرتبط هذا القرار الجديد الذي أقدمت عليه تركيا بالتوتر المتصاعد في علاقاتها مع روسيا، لا سيما بسبب الوضع في إدلب، على نحو بدا جلياً في قيام سلاح الجو الروسي، في 21 أغسطس الجاري، بتدمير قاعدة عسكرية لــ”هيئة تحرير الشام” في إدلب، وهو ما أثار تساؤلات حول مصير التفاهمات الروسية-التركية في المنطقة.

ومن دون شك، فإن ذلك يعود، في قسم منه، إلى تعثر عمليات التطبيع بين أنقرة ودمشق، والمواقف التركية من تطورات الأزمة الأوكرانية، ومنها موافقة أنقرة على انضمام السويد إلى حلف الناتو، وإعلانها عن الاستعداد لدعم جهود أوكرانيا للانضمام إلى الأخير.

مساران محتملان

في سياق مساعي تركيا لتوحيد سلطة المجالس المحلية، وتعيين حاكم واحد للإشراف على عمل المناطق الموالية لها في الشمال السوري، فإن ثمة مسارين محتملين يمكن أن يتجه الوضع في شمال سوريا إلى أحدهما: أولهما، نجاح تركيا في توحيد سلطة مجالس الشمال السوري، خاصة في ظل رغبتها في تأمين سلطة هذه المناطق وتوحيد جهودها لمواجهة التمدد الإيراني، وهو ما ظهر مؤخراً في محاولاتها تحشيد الفصائل الموالية لها، والتعاون مع واشنطن لقطع طريق طهران-بيروت الذي يمر عبر بغداد وصولاً إلى سوريا، وكذلك موازنة الضغوط الروسية المفروضة عليها في سوريا. كما ترى أنقرة أن توحيد المجالس المحلية بات أولوية في ظل سعيها لتأمين عودة القسم الأكبر من اللاجئين السوريين، قبل الانتخابات المحلية التي سوف تجرى في عام 2024، ويخشى الرئيس التركي من نجاح محتمل للمعارضة في توظيف هذه الورقة انتخابياً على غرار ما حدث في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في مايو الماضي. كما أن تركيا تحاول عبر هذه الخطوة تقليص حدة الانتقادات الموجهة لها بسبب انتهاكات الفصائل الموالية لها في شمال سوريا، حيث تشهد هذه المناطق تردياً في الحالة الاقتصادية والأمنية والإنسانية.

وثانيهما، فشل تركيا في توحيد سلطة المجالس المحلية في شمال سوريا، بالنظر إلى نزوع جانب واسع من الفصائل السورية التي تدير هذه المجالس للرغبة في الاستقلال، وفرض سياستها الخاصة في المناطق التي تديرها. كما أن ثمة توترات وخلافات عميقة بين هذه الفصائل قد تنعكس على الجهود التركية في هذا الصدد، وظهر ذلك -على سبيل المثال- في الاشتباكات التي اندلعت في أكتوبر 2022، ضمن مناطق العمليات والنفوذ التركي في شمال حلب وغربها، بين فصائل “الجيش الوطني السوري”، المدعومة من أنقرة، على خلفية تورط مقاتلين من “فرقة الحمزة” في مقتل الناشط الإعلامي محمد أبو غنوم وزوجته، ومطالبة “الفيلق الثالث”، وهو أحد مكونات فصيل “الجبهة الشامية”، بتوقيف المتورطين.

ترسيخ النفوذ

ختاماً، يمكن القول إن كشف النقاب عن محاولات أنقرة لتوحيد المجالس المحلية في الشمال السوري يأتي في سياق مساعيها لترسيخ نفوذها ودفع سياسات التتريك في هذه المناطق. بيد أن الخلافات القائمة بين الفصائل الموالية لها إلى جانب الضغوط التي تمارسها القوى الإقليمية والدولية المنخرطة في المشهد السوري، قد تلقي بظلالها على هذه المحاولات، على نحو سوف يضع، في الغالب، عقبات عديدة أمام تلك التحركات خلال المرحلة القادمة.