سياقات متحولة:
دوافع تغيّر سياسة أنقرة إزاء شرق ليبيا

سياقات متحولة:

دوافع تغيّر سياسة أنقرة إزاء شرق ليبيا



تدخل علاقات تركيا مع القوى السياسية وهياكل الحكم في شرق ليبيا مرحلة جديدة بعد زيارة السفير التركي لدى طرابلس “كنان يلماز”، في 19 يناير الجاري، ولقائه المسئولين الليبيين، وفي مقدمتهم رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح. ويُعد هذا اللقاء هو الأول من نوعه، وقد أسفر عن كسر حدة التوتر بين أنقرة ومنطقة شرق ليبيا، كما حمل في طياته إشارة مهمة إلى تجاوز جوانب مهمة من الصراع الذي ميز العلاقات بين الطرفين خلال السنوات الماضية.

مؤشرات التغير

تواصل أنقرة التعويل بقوة على الأداة الدبلوماسية في تهدئة التوتر مع محيطها الإقليمي، وتخفيف آثار انخراطها في صراعات الإقليم، وبخاصة في المشهد الليبي، ويعبر عن ذلك التحركات التركية المكثفة في شرق ليبيا، وبناء جسور من الثقة مع الهياكل السياسية، خاصة أن تركيا باتت مدركة انفتاح حلفائها على كافة القوى في الإقليم، ناهيك عن قلق أنقرة من أن تسفر مسارات التسوية المحتملة في ليبيا عن صعود تيارات الشرق الليبي إلى صدارة المشهد -أو على الأقل تكون ضمن مكوناته- حال إجراء الانتخابات المقرر لها يونيو المقبل، وهو ما قد يعيق مصالحها في ليبيا خلال المرحلة المقبلة، لذا فقد بدأت تركيا تُعيد حساباتها تجاه شرق ليبيا. وتتمثل أبرز مؤشرات هذا التغيير في الموقف التركي تجاه شرق ليبيا فيما يلي:

1- تعزيز سياسة التهدئة: على الرغم من استمرار القضايا الخلافية بين أنقرة ومعسكر شرق ليبيا، إلا أن الأولى تسعى لفتح مساحات لخلق تفاهمات أو البحث عن طرق لتسوية الملفات العالقة، وتجسير هوة الخلافات. وفي هذا السياق، جاءت زيارة السفير التركي لدى طرابلس، في 19 يناير الجاري، ولقاؤه عقيلة صالح رئيس مجلس النواب الليبي. وفي تصريحات له، أكد السفير التركي “أن محادثاته مع رئيس مجلس النواب أظهرت تطوراً إيجابياً”، وأضاف “أن بلاده لديها استعداد عند توفر الظروف المناسبة، لإعادة فتح قنصليتها العامة في بنغازي”. كما سبق هذه الزيارة تصريحات إيجابية لوزير الخارجية التركي نهاية ديسمبر الماضي، حيث أعلن عن نيته زيارة شرق ليبيا، وتابع: “نحن نرى الدولة الشقيقة والصديقة ليبيا التي تربطنا معها علاقات تاريخية متجذرة، كلاً واحداً، ولا نفرق بين مناطقها”، مشدداً على “إيلاء تركيا أهمية لتطوير العلاقات مع كافة الأطراف في البلاد”.

بالتوازي مع ذلك، زار وفد برلماني من شرق ليبيا تركيا خلال الفترة من 17 إلى 19 ديسمبر الماضي، وجاءت الزيارة تلبية لدعوة من مجلس الأمن القومي التركي، وفي إطار حرص أنقرة على تفعيل لجنة الصداقة البرلمانية التركية الليبية. ويبدو أن هذه الزيارة حركت جانباً واسعاً من المياه الراكدة في العلاقة بين الجانبين، خاصة أن النواب الذين شاركوا في هذه الزيارة كان جلّهم من أشد المعارضين للسياسة التركية تجاه الملف الليبي، لتركيا ولرئيسها رجب طيب أردوغان، ومن الرافضين لسياسات حكومته في الملف الليبي، خلال أعوام الأزمة في بلادهم.

2- الانفتاح على أبناء القذافي: في سياق سعي أنقرة إلى تنويع حلفائها في ليبيا، خاصة بعدما أدركت ضعف شعبية حليفها السياسي حزب العدالة والبناء (الجناح السياسي لجماعة الإخوان المسلمين)، وعدم قدرتهم على حماية المصالح التركية على الأراضي الليبية خلال المرحلة المقبلة، إضافة إلى رفض كثير من الليبيين في طرابلس العناصر المسلحة المحسوبة على تركيا؛ فقد كان فتح المجال أمام التقارب مع عائلة القذافي أحد خيارات تركيا للتحايل على تراجع الرصيد التقليدي للتيارات الداعمة لها غرب ليبيا.

وفي هذا السياق، لعبت تركيا دوراً مستتراً في الإفراج عن سعدي القذافي نجل الرئيس الليبي السابق، الذي اختار تركيا محطة بقاء له عشية إطلاق سراحه في سبتمبر الماضي. كما تعمل أنقرة خلال المرحلة الحالية بليل أو من وراء ستار على مد جسور الصلة مع سيف الإسلام القذافي بعد ظهوره للعلن، وإعلانه خوض الانتخابات. وترى تركيا أن القذافي يمثل خياراً استراتيجياً لعدة اعتبارات، أولها: أنه يمكن من خلاله تقليص نفوذ المشير خليفة حفتر في شرق ليبيا، وقطع الطريق عليه لخوض الانتخابات المقبلة، أو على الأقل حرمانه من الفوز، حيث يحظى سيف الإسلام بشعبية معتبرة بين قبائل شرق ليبيا. وثانيها: أن سيف القذافي يرتبط بعلاقات وثيقة مع تيار الإخوان غرب ليبيا، باعتباره مهندس صفقة المصالحة مع الإسلاميين في ليبيا، والإفراج عنهم من المعتقلات، أثناء فترة حكم والده. ثالثها: أنّ ترطيب العلاقة مع القذافي قد يكون مدخلاً لإصلاح العلاقة مع واشنطن التي يبدو أنها تُبدي دعماً لافتاً لدعم ترشحه لرئاسة ليبيا، وفقاً لأحد التحليلات السائدة في واشنطن.

3- التجاوب حول القضايا الشائكة: أبدت تركيا مرونة لافتة خلال الفترة الفارطة بشأن حلحلة القضايا الخلافية مع شرق ليبيا، وظهر ذلك في استضافة أنقرة في ديسمبر الماضي اللجنة العسكرية المشتركة 5 + 5، التي تضم في عضويتها خمسة ضباط ممثلين للمشير حفتر، وأحرز الاجتماع تقدماً كبيراً في المفاوضات مع أنقرة لسحب قواتها من الغرب الليبي، حيث وعدت تركيا بحل هذا الملف. ويشار في هذا السياق إلى قيام أنقرة في نوفمبر الماضي، وعشية مؤتمر باريس حول ليبيا، بسحب مجموعة نوعية من مرتزقة الفصائل الموالية لها.

دوافع متنوعة

يمكن فهم تغير مواقف تركيا تجاه شرق ليبيا، والتوجه نحو تعزيز سياسة خفض التصعيد، وتوظيف استخدام الأداة الدبلوماسية كوسيلة رئيسية لتحقيق التقارب مع معكسر الشرق، من خلال مجموعة من الدوافع يمكن إبرازها على النحو التالي:

1- تعزيز الاستثمارات التركية في شرق ليبيا: لا تنفصل الرغبة التركية للانفتاح على شرق ليبيا عن محاولاتها معالجة الأزمة المالية التي تعصف باقتصادها، وحاجتها الملحة إلى تعزيز الاستفادة من الثروات الطبيعية والمعدنية ومشاريع إعادة الإعمار شرق ليبيا. ونظراً لما يمتلكه شرق ليبيا من فرص اقتصادية واعدة، تسعى تركيا إلى الاستفادة منها، في ظل تعثر قطاع واسع من الشركات التركية بسبب انهيار سعر العملة التركية. كما أشارت تصريحات المسئولين الأتراك إلى وجود مساعٍ تركية لتعزيز استثماراتها في شرق ليبيا. فعلى سبيل المثال، أعلن السفير التركي عشية لقائه عقيلة صالح أن بلاده تتجه إلى عودة رحلات الخطوط الجوية التركية إلى بنغازي، ومن المتوقع أن تقوم الشركات التركية بالعودة القريبة إلى شرق ليبيا لإتمام مشاريعها غير المكتملة، والقيام بمشاريع جديدة.

2- موازنة الأدوار المعاكسة للقوى العربية الرئيسية: اتجهت تركيا في الفترة الأخيرة إلى اتخاذ مجموعة من التدابير لموازنة تحركات القوى الإقليمية التي تناهض توجهاتها في ليبيا، فلا تزالتركيا تراقب بحذر تحركات مصر والإمارات في الملف الليبي، خاصة مع إعادة القاهرة افتتاح أبواب سفارتها لدى طرابلس من جديد في مايو الماضي، وما تلاها من زيارة رئيس الحكومة الليبية عبدالحميد الدبيبة للقاهرة في 16 سبتمبر الماضي، ناهيك عن افتتاح الإمارات في 17 يناير الجاري سفارتها في طرابلس. هنا، يمكن فهم تسارع التحركات من جانب الحكومة التركية تجاه تطوير العلاقات مع شرق ليبيا، ودعم مساحات التعاون السياسي، وذلك لموازنة التحركات الإقليمية التي تتباين مع توجهاتها وأهدافها في الساحة الليبية.

3- إثبات جدية تحسين العلاقات مع دول الإقليم: يأتي التوجه التركي نحو الانفتاح على شرق ليبيا في إطار رغبة أنقرة لإظهار انطباع لدى الدول الرئيسية في الإقليم، وعلى رأسها مصر والإمارات والسعودية، بأن سياستها تجاه الملفات العالقة مع هذه الدول ستشهد تحولاً نوعياً، يرتكز على بناء مساحات مشتركة، وتعزيز الفرص التعاونية مع هذه الدول في مناطق الصراعات، وبخاصة ليبيا، على اعتبار أن شرق ليبيا يحظى بدعم عدد واسع من القوى الإقليمية التي تحاول تركيا تصفير الخلافات معها في هذه المرحلة، وفي الصدارة منها القاهرة وأبو ظبي. ويشار -في هذا الصدد- إلى أن التقارب الحادث في علاقات تركيا مع عواصم إقليمية في المنطقة، وفي مقدمتها القاهرة وأبو ظبي، وفّر بيئة خصبة لتحقيق التقارب بين أنقرة وشرق ليبيا.

4- امتلاك ورقة للمساومة في العلاقات مع موسكو وأوروبا: يُضاف إلى أسباب توجه تركيا نحو دفع العلاقات مع شرق ليبيا، رغبة تركيا في امتلاك أوراق نافذة لاستيعاب الضغوط الروسية والأوروبية على تركيا في ملفات خلافية، لذلك تعي تركيا أن تطوير العلاقة مع شرق ليبيا يحظى بتأييد لافت من موسكو وبعض الأطراف الأوروبية باعتباره أولوية استراتيجية في هذه المرحلة يمكن توظيفها في علاقتها مع موسكو، وكذلك الاتحاد الأوروبي، وبخاصة فرنسا. ويشار في هذا السياق إلى أن ليبيا تحولت إلى إحدى النقاط الساخنة في العلاقات الروسية التركية من جهة، والعلاقات التركية-الفرنسية من جهة أخرى خلال الفترة الأخيرة، فمن جهتها عملت موسكو على دعم الضغوط الدولية والإقليمية التي تطالب أنقرة بسحب عناصرها المسلحة، وكان بارزاً هنا تصريحات وزير الخارجية الروسي، في 19 أغسطس الماضي، حيث أعلن عشية لقائه نظيرته الليبية نجلاء المنقوش عن ضرورة “سحب الوجود العسكري التركي من ليبيا بغض النظر عن وضعه القانوني”. كما مارست فرنسا ضغوطاً متواصلة لقطع الطريق على الوجود العسكري التركي في ليبيا.

وختاماً، يمكن القول إن التغيير السياسي التركي تجاه معسكر الشرق الليبي، يهدف بالأساس إلى تعزيز الحضور التركي في عموم ليبيا في إطار الطموحات التركية لتأمين مصالحها من جهة، وموازنة التهديدات التي قد تتعارض مع دورها المرحلي والمستقبلي في المشهد الليبي من جهة أخرى.