أجرت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تغييراً نسبياً في موقفها تجاه التصعيد العسكري الإسرائيلي في قطاع غزة، والذي كان قائماً على الدعم اللا محدود لإسرائيل، وحقها في الدفاع عن نفسها، في أعقاب عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر الماضي، وذلك في ظل الضغوط الداخلية المتعددة التي تعرضت لها من جانب العديد من الموظفين والدبلوماسيين في وزارة الخارجية الأمريكية وبعض الوكالات الفيدرالية، والتيار التقدمي داخل الحزب الديمقراطي، والتي فرضها ارتفاع التكلفة الإنسانية لهذا التصعيد الذي توقف مؤقتاً بمقتضى الهدنة الإنسانية، التي تم تمديدها لمدة يومين إضافيين، لإطلاق العديد من الرهائن والسجناء من الجانبين.
ملامح رئيسية
اتخذت الإدارة الأمريكية خلال الأيام الماضية عدداً من الإجراءات التي تكشف عن بعض التغيير في الموقف الذي تبنته خلال أولى أيام العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، وتتمثل أبرز ملامح هذا التغيير فيما يلي:
1- قيود على تجديد الحملة البرية الإسرائيلية: تسعى الإدارة الأمريكية إلى تجنب وقوع المزيد من الضحايا المدنيين، أو النزوح الجماعي كما حدث قبل الهدنة الإنسانية. ولذلك، أشارت تقارير أمريكية استناداً إلى تصريحات لكبار المسئولين الأمريكيين، إلى أن إدارة الرئيس جو بايدن أبلغت إسرائيل بأنه يجب عليها العمل على تجنب المزيد من التهجير الكبير للمدنيين الفلسطينيين في جنوب غزة إذا جددت حملتها البرية التي تهدف، في رؤية إسرائيل، إلى القضاء على حركة حماس بعد انقضاء الهدنة الإنسانية، فضلاً عن تجنب الهجوم على البنية التحتية مثل محطات الكهرباء، والمياه، والمستشفيات في جنوب ووسط غزة.
وقد أوضح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن القوات الإسرائيلية ستستأنف العمليات العسكرية في نهاية المطاف بعد انتهاء وقف إطلاق النار المؤقت الحالي الذي يسمح بتبادل الرهائن الذين احتجزتهم حركة حماس في 7 أكتوبر الفائت ببعض الأسرى الفلسطينيين الذين تحتجزهم إسرائيل.
وفي المقابل، أكد المسئولون الأمريكيون لنظرائهم الإسرائيليين أنه يجب عليهم العمل بدقة أكبر بكثير في جنوب غزة مما فعلوا في شمال القطاع. وبحسب تقرير لوكالة “أسوشيتدبرس”، في ٢٨ نوفمبر الجاري، قال مسئول أمريكي إن المسئولين الإسرائيليين كانوا متقبلين المخاوف التي أثارها مسئولو الإدارة الأمريكية.
2- جهود مستمرة لتمديد الهدنة الإنسانية: بعد أن رفض الرئيس جو بايدن، في مقال نشره بصحيفة “واشنطن بوست”، في ١٨ نوفمبر الجاري، بعنوان “الولايات المتحدة لن تتراجع أمام تحدي بوتين وحماس”، الدعوات لوقف إطلاق النار في غزة لكونها تمثل فرصة لحركة حماس لإعادة بناء مخزونها من الصواريخ، وإعادة تمركز مقاتليها، فإنه تراجع عن هذا الرفض بعد انتقادات متزايدة في الداخل والخارج بسبب عدم الدعوة إلى وقف لإطلاق النار، حيث قال إنه يود أن يرى استمرار وقف إطلاق النار لأطول فترة ممكنة، لكونه زاد من دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة، والتي تشتد الحاجة إليها.
وتشير تقديرات أمريكية إلى أن الملفات التي سيناقشها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، خلال زيارته الثالثة للمنطقة منذ بدء الحرب بين إسرائيل وحماس في الشهر الماضي، ستتقدمها قضية إيجاد طريقة لتمديد وقف إطلاق النار، وإطلاق سراح المزيد من الرهائن. وكانت قضية بحث تمديد الهدنة بين إسرائيل وحماس محور مباحثات أمريكية-مصرية-قطرية-إسرائيلية، في ٢٨ من الشهر الجاري.
3- دعوات لتقديم مساعدات “مشروطة” لإسرائيل: كانت الإدارة الأمريكية تقدم دعماً غير مشروط لإسرائيل في أعقاب عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر الفائت، ولكن مع ارتفاع التكلفة الإنسانية للعمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، والضغوط الداخلية على الرئيس الأمريكي لإجراء تحول في الدعم الأمريكي لإسرائيل، تتصاعد دعوات بعض المشرعين الأمريكيين لفرض شروط على المساعدات الأمريكية المستقبلية لإسرائيل.
فقد دعا السيناتور الديمقراطي كريس ميرفي إلى ربط المساعدات الأمريكية القادمة لإسرائيل بامتثالها للقانون الإنساني الدولي، بعد ارتفاع عدد القتلى المدنيين في غزة جراء العمليات العسكرية الإسرائيلية. وطالب السيناتور بيرني ساندرز، في مقاله بصحيفة “نيويورك تايمز”، في ٢٢ نوفمبر الجاري، بعنوان “العدالة للفلسطينيين والأمن لإسرائيل”، بوضع حد لما أسماه “نهج الشيكات على بياض” لتمويل أمن إسرائيل، والذي يجب أن يكون مشروطاً بوقف القصف وعنف المستوطنين في الضفة الغربية، والالتزام بعدم احتلال إسرائيل لقطاع غزة.
4- معاقبة المستوطنين الذين يهاجمون الفلسطينيين: مع إدراك الإدارة الأمريكية أن الحكومة اليمينية الإسرائيلية لا تحاول بجدية وقف عنف المستوطنين الإسرائيليين ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة ومنعه، أعلن الرئيس الأمريكي لأول مرة، في ١٨ نوفمبر الجاري، أن الولايات المتحدة مستعدة لفرض عقوبات على المستوطنين الإسرائيليين المتورطين في هجمات ضد الفلسطينيين.
وقد ذكر بايدن في مقاله بصحيفة “واشنطن بوست”– السابق الإشارة إليه- أنه دعا خلال لقاءاته بالمسئولين الإسرائيليين إلى وقف “العنف المتطرف” ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، وضرورة خضوع أولئك الذين يرتكبون أعمال العنف للمساءلة. وقد أعلن في المقال عن استعداد الولايات المتحدة لإصدار حظر على تأشيرات الدخول ضد المتطرفين الذين يهاجمون المدنيين في الضفة الغربية.
معضلة واشنطن
تواجه الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط راهناً معضلة لم تتعرض لها منذ الأحداث التي وقعت في عام ٢٠١١، بحسب فريدريك ويري وجينيفر كافانا، في مقالهما بموقع مجلة “فورين أفيرز” بعنوان “المستنقع الشرق أوسطي الذي يلوح في أفق واشنطن” في ٢٤ نوفمبر الجاري، حيث أدت العمليات العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة، وما صاحبها من ارتفاع في القتلى والجرحى الفلسطينيين، ونزوح الملايين، إلى انتشار مشاعر العداء للولايات المتحدة، ومصالحها على نطاق واسع في جميع أنحاء المنطقة؛ وهو ما استغلته المليشيات المسلحة الموالية لإيران لشن هجمات على جنود عسكريين أمريكيين في العراق وسوريا.
وسيكون لمواقف الإدارة الأمريكية من التصعيد العسكري الإسرائيلي في غزة، والتداعيات الجيوسياسية الأوسع للحرب، عواقب بعيدة المدى على الاستقرار الإقليمي، وكذلك على قدرة الولايات المتحدة على مواجهة الخصوم وردعهم في الشرق الأوسط ومناطق أخرى.
وقد يؤجج زيادة الانتشار العسكري الأمريكي في المنطقة سواء لإظهار الدعم الأمريكي لإسرائيل، أو لمنع تحول الحرب الإسرائيلية في غزة إلى صراع أوسع نطاقاً، التوترات الإقليمية، كما سيزيد من مخاطر وتكاليف سوء التقدير، وبالتالي قد يقود كل ذلك إلى صراعات جديدة تسعى الإدارة الأمريكية بشدة إلى تجنبها.
كما يمكن أن يسفر تزايد المعدات العسكرية والجنود الأمريكيين في المنطقة عن توريط الولايات المتحدة في التزامات أمنية مفتوحة تجاه منطقة كانت تحاول- حتى وقت قريب- تحرير نفسها منها في ظل استراتيجيتها القائمة على توجيه الاهتمام نحو منطقة الإندوباسيفيك، لمواجهة الصعود الصيني الذي تنظر إليه الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة على أنه غير سلمي، والتركيز على منع روسيا من تحقيق انتصار في حربها ضد أوكرانيا المستمرة منذ ٢٤ فبراير من العام الماضي.