لا يعبر اهتمام الاتحاد الأوروبي بالأزمات التي تشهدها المنطقة العربية منذ أكثر من عقد عن توجه جديد أو تغير جذري في السياسة الأوروبية إزاء التعامل مع التطورات التي تشهدها تلك الأزمات. لكن الجديد في الأمر يكمن في اتساع نطاق هذا الاهتمام، على نحو يبدو جلياً في مسارعة الاتحاد إلى الإعلان عن حزمة مساعدات جديدة إلى تركيا تقدر بـ3 مليار يورو من أجل تجديد اتفاق الهجرة وإعادة قبول اللاجئين على ضوء تفاقم تداعيات الأزمة السورية في منتصف العقد الماضي، وتأكيد دعمه للانتخابات التي سوف تجري في العديد من دول الأزمات بالمنطقة، على غرار ليبيا والعراق، ومحاولاته دفع إيران إلى استئناف المفاوضات التي توقفت في فيينا حول الاتفاق النووي. وربما يمكن تفسير ذلك في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في احتواء تداعيات الارتدادات المتوقعة للانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وتجنب التعرض لموجات جديدة من اللاجئين، وتقليص احتمالات نشوب حرب جديدة بالمنطقة، وتفعيل التعاون في مجال مكافحة الإرهاب مع القوى الإقليمية الرئيسية، وتعزيز الجهود المبذولة للوصول إلى تسويات سياسية للأزمات التي تشهدها بعض الدول العربية.
خطوات متوازية
بدأ الاتحاد الأوروبي خلال الفترة الأخيرة في توجيه رسائل مباشرة تفيد أن التكتل يسعى إلى تعزيز انخراطه في الترتيبات السياسية والأمنية التي يجري العمل على صياغتها سواء في بعض دول الأزمات، أو تجاه العديد من الملفات الإقليمية التي تحظى باهتمام خاص من جانب دوله.
وفي هذا السياق، أعلنت المتحدثة باسم المفوضية الأوروبية لشئون الهجرة أوليفير فارهيليه، في 8 سبتمبر الجاري، أن المفوضية تستعد في الوقت الحالي للإعلان عن حزمة مساعدات جديدة إلى تركيا تصل قيمتها إلى 3 مليار يورو، في إطار مساعي الاتحاد لإعادة تمديد اتفاق الهجرة ووقف تدفق اللاجئين الذي وقع مع تركيا في 18 مارس 2016. ويكتسب هذا الاتفاق اهتماماً خاصاً من جانب الاتحاد، رغم المشكلات العديدة التي تواجهه، والتي يأتي في مقدمتها الانتقادات المستمرة التي توجهها تركيا للاتحاد بشأن عزوفه عن تنفيذ بعض الالتزامات المنصوص عليه في الاتفاق، حيث تسعى تركيا للحصول على مزيد من الامتيازات في إطار تجديد الاتفاق بين الطرفين.
كما حرص الاتحاد على تأكيد دعمه للترتيبات السياسية التي يجري العمل على استكمالها في ليبيا، على نحو بدا جلياً في الزيارة التي قام بها مسئول السياسة الخارجية بالاتحاد جوزيب بوريل إلى الأخيرة، في 8 سبتمبر الجاري، حيث أكد على أن الاتحاد لن يكتفي بدعم الجهود المبذولة لإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية في 24 ديسمبر القادم، وإنما سيكون له دور رئيسي في عملية بناء مؤسسات الدولة الليبية على المدى الطويل. وقبل ذلك بيومين، قام بوريل بزيارة العراق، حيث أكد أيضاً دعم الاتحاد لإجراء الانتخابات التشريعية في 10 أكتوبر القادم، مشيراً إلى أن “العراق القوي سوف يكون له تأثير كبير في المنطقة”.
وبالتوازي مع هذه الجهود، يبدي الاتحاد أيضاً اهتماماً خاصاً بالملف النووي الإيراني، وكان أحد خطواته في هذا السياق، الاتصال الهاتفي الذي أجرى بين رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، في 8 سبتمبر الجاري، بهدف حث إيران على استئناف المفاوضات التي توقفت في فيينا في 20 يونيو الماضي.
أهداف مختلفة
يمكن تفسير تزايد اهتمام الاتحاد الأوروبي بالتطورات التي تشهدها أزمات المنطقة في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- التعاطي مع السياسة الأمريكية المتغيرة: يبدو أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، فضلاً عن الارتباك الواضح في السياسة الأمريكية إزاء العديد من الملفات التي تحظى باهتمام مشترك من الجانبين، بدأت تفرض على الدول الأوروبية ضرورة إعادة النظر في الاستراتيجية الأمنية للاتحاد، خاصة في ظل قربه من مناطق الأزمات في الشرق الأوسط، والتي تصل ارتداداتها سريعاً وبشكل مباشر إلى حدوده. ومن هنا، كان لافتاً أن توجهات عديدة بدأت تظهر على الساحة الأوروبية تدعو إلى ضرورة توسيع نطاق القدرات الأوروبية لاحتواء التهديدات القوية التي تواجهها والتحرك من أجل الدفاع عن مصالح وأمن الاتحاد. وقد بدأت هذه الاتجاهات من ألمانيا، وعبّر عنها أرمين لاشيت مرشح التحالف المسيحي الذي ينافس على منصب المستشارية، والذي أشار إلى أن التهديدات التي تواجهها أوروبا تفرض ضرورة توسيع هامش الخيارات المتاحة أمامها للتعامل معها في المرحلة القادمة.
2- تجنب موجات جديدة من اللاجئين: ربما يمكن تفسير مسارعة الاتحاد الأوروبي إلى الإعلان عن حزمة المساعدات الجديدة إلى تركيا، في ضوء الضغوط التي تمارسها الأخيرة من أجل توسيع نطاق الاتفاق الموقع في عام 2016 ليشمل اللاجئين الأفغان أيضاً إلى جانب اللاجئين السوريين، بعد أن بدأت موجات من اللاجئين الأفغان في الوصول إلى تركيا تمهيداً للانتقال منها إلى أوروبا، عقب سيطرة حركة “طالبان” على السطة في كابول بداية من 15 أغسطس الفائت.
وفي هذا السياق، فإن الاتحاد ربما يسعى إلى الوصول إلى حلول وسط مع أنقرة من أجل منع تدفق اللاجئين الأفغان إليه، لاسيما أن الأخيرة ربما تسعى إلى التغاضي عن ذلك في ضوء محاولاتها الحصول على مزيد من الامتيازات المرتبطة بالاتفاق. وقد أشار وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو، خلال لقاءه نظيرته الهولندية سيغريد كاغ في 2 سبتمبر الجاري، إلى ضرورة تعديل الاتفاق ليشمل التطورات الجديدة التي طرأت على ملف اللاجئين، حيث قال في هذا الصدد: “نحتاج إلى تحديث هذه الاتفاقية لتشمل العديد من القضايا، بما في ذلك العودة الطوعية والكريمة للأفغان إلى بلادهم إذا استتب الأمن والاستقرار في أفغانستان غداً، وكذلك إعادة السوريين إلى سوريا بشكل آمن”.
3- إخراج المرتزقة من دول الأزمات: يرى الاتحاد الأوروبي أن الميليشيات التي قامت دول عديدة- في إشارة إلى إيران وتركيا تحديداً- باستقدامها للانخراط في الصراعات المسلحة في بعض دول الأزمات، لاسيما في سوريا وليبيا، كانت أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى إطالة أمد تلك الصراعات وعرقلة الجهود المبذولة للوصول إلى تسويات سياسية لها. ومن هنا، يمكن تفسير تركيز الاتحاد على فكرة “بناء مؤسسات الدولة الليبية” باعتبار أن ذلك يمثل المدخل الأساسي الذي يمكن من خلاله تقليص وجود المرتزقة والضغط من أجل إخراجهم من ليبيا في إطار مساعي دعم الاستقرار على المستويات المختلفة داخل ليبيا خلال المرحلة القادمة.
4- إنهاء تصفية الحسابات الإقليمية والدولية: تبدي دول الاتحاد اهتماماً خاصاً بتعزيز قدرة الدولة العراقية على محاربة الإرهاب، حيث ترى أن ذلك يمكن أن يقلص من الارتدادات المحتملة لاستمرار نشاط التنظيمات الإرهابية داخل العراق، سواء فيما يتعلق باحتمال تهديد مصالحها داخل العراق أو فيما يتصل بمحاولات بعض تلك التنظيمات تأسيس خلايا أو تهريب عناصرها إلى داخل دول الاتحاد للقيام بعمليات إرهابية على غرار ما حدث في الأعوام الماضية. ووفقاً لتلك الرؤية، فإن الآلية الأولى في هذا الصدد تتمثل في دعم الجهود التي يبذلها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي من أجل إنهاء عمليات تصفية الحسابات الإقليمية والدولية على الساحة العراقية، خاصة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، باعتبار أن ذلك يساهم في تعزيز نفوذ الميليشيات الموالية لإيران ويضعف من قدرة الدولة على تكريس الأمن والاستقرار على المستويات المختلفة.
5- تقليص احتمالات نشوب حرب جديدة: رغم الجهود الحثيثة التي تبذلها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية من أجل تعزيز فرص استئناف مفاوضات فيينا مع إيران حول الاتفاق النووي والتي توقفت بعد الجولة السادسة في 20 يونيو الماضي، إلا أن الأخيرة لا تبدي من المرونة ما يمكن معه التكهن باحتمال الوصول إلى تسوية قريبة لأزمة هذا الاتفاق، لاسيما في ظل التقدم المستمر في النشاط النووي الإيراني، على نحو ما كشف عنه تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في 8 سبتمبر الجاري، والذي أكد أن كمية اليورانيوم المخصب بنسبة 60% وصلت إلى نحو 10 كيلو جرام، وأن كمية اليورانيوم المخصب بنسبة 20% ارتفعت من 62.8 كيلوجرام إلى 84.3 كيلوجرام. وهنا، لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية تستبعد احتمال فشل المفاوضات وانهيار الاتفاق، ومن ثم عودة أزمة البرنامج النووي الإيراني إلى المربع الأول من جديد، على نحو سوف يدفعها مجدداً إلى إعادة التهديد باستخدام الخيار العسكري، لاسيما في ظل الضغوط التي تمارسها إسرائيل في هذا الصدد.
ولذا، ومن أجل تجنب هذا السيناريو، تسعى الدول الأوروبية إلى إقناع إيران بضرورة إبداء مرونة أكبر والإسراع في استئناف المفاوضات من أجل الوصول إلى صفقة جديدة. وقد بدأت لتحقيق ذلك في التلويح بخيارات أخرى، مثل تعزيز التقارب الأمريكي- الأوروبي في مواجهتها خلال المرحلة القادمة، حيث تدرك أن إيران حاولت في الفترة الماضية استثمار تباعد المواقف بين الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية من أجل توسيع هامش الحركة والمناورة المتاح أمامها.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن الاتحاد الأوروبي يسعى إلى تبني سياسة جديدة لإعادة التموضع بناءً على المتغيرات التي تشهدها الساحة الدولية، والتي بدأت تنعكس على أقاليم الجوار، التي تصل انعكاسات أزماتها إلى حدوده على نحو يهدد أمن ومصالح دوله بشكل مباشر.