ما زالت الحملات المتبادلة بين “الحشد الولائي”- المقرب من إيران- و”ألوية العتبات”- المقربة من المرجعية المحلية العراقية ممثلة في على السيستاني- مستمرة، على نحو بدا جلياً في تبادل الاتهامات بين الطرفين من منظور توجهات الانتماء، ما بين “التبعية للخارج” و”خيانة العراق” وفق رواية “ألوية العتبات”، واتهامات بـ”القومية” في إطار المرجعية العراقية كمرجعية عربية وفق رواية “الحشد الولائي”. ويعكس هذا الخلاف الأيديولوجي جوهر الانقسام الهيكلي على خريطة “الحشد”، في ظل التباين في وجهات نظر المراقبين بين أن الانقسام كان قائماً بالأساس بين تلك القوى، حيث أن “ألوية العتبات” تمتثل من البداية لفتوى “الجهاد الكفائي” التي أطلقها السيستاني للحرب ضد “داعش”، في حين أن “الحشد الولائي” تشكل هيكلياً على يد الحرس الثوري في إطار مشروع إيراني أسسه قائد “فيلق القدس” السابق قاسم سليماني، وأن هذا الانقسام ظهر إلى العلن بعد اغتيال سليماني مطلع العام الماضي.
مظاهر متعددة:
اتهم آمر “لواء أنصار مرجعية العتبات” حميد الياسري، في 15 أغسطس الجاري، فصائل “المرجعية الولائية” بـ”خيانة العراق” والولاء لغيره، كما اتهم تلك الجهات بقتل المتظاهرين العراقيين في السابق بأوامر وفتاوى من خارج الحدود. وقال أن “بعض المعنيين بهذا الكلام– في إشارة إلى الحشد الولائي- ممكن أن يسجلوه ويعطوه لأسيادهم خارج الحدود”، معتبراً أن كلامه من الممكن أن يتسبب بقتله بأوامر وفتاوى من خارج الحدود. وفي المقابل، شن زعيم “عصائب أهل الحق” قيس الخزعلي هجوماً مضاداً على الياسري متهماً إياه بـ”الاستتار بالوطنية لتمرير مشروعه الخاص”، كما وصف “ألوية العتبات” بـ”القوميين المعممين”.
كما توازى التصعيد الأيديولوجي مع تصعيد سياسي على خلفية تصريحات رئيس “الحشد الشعبي” فالح الفياض، لدى مشاركته في احتفال تسلم الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي مقاليد منصبه في 5 أغسطس الجاري، حيث نقل عنه رغبته في الاستفادة من تجربة الحرس الثوري في العراق، بالإضافة إلى إشادة الفياض بما وصفه بـ”دعم الشعب الإيراني والحرس الثوري للشعب العراقي والحشد الشعبي”. إذ انخرط مراقبون وناشطون سياسيون في الجدل الذي أثارته تلك التصريحات وانتقدوا رئيس هيئة “الحشد” مطالبين إياه بالاستقالة وإعادة هيكلة “الحشد” مرة أخرى وإبعاده عن مسار الاستقطاب الإيراني الراهن، وفق السياسات التي يتبناها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي بإبعاد العراق عن التدخلات الخارجية.
فضلاً عن ذلك، انعكس هذا التصادم ميدانياً، فى ظل التباين الوظيفي في الأدوار على الصعيدين الداخلي والخارجي، ومقاربة العلاقة مع الحكومة والقوات المسلحة. فقد خاض “الحشد الولائي” مواجهات سياسية مع رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي منذ توليه منصبه، حيث طالب الخزعلي رئيس الوزراء بحصر دوره في الوصول إلى العملية الانتخابية. وفي المقابل، شن الكاظمي ووزير الدفاع جمعة عناد هجوماً مضاداً لهذه التوجهات تصاعدت حدته مع قيام الفصائل المسلحة التابعة لـ”الحشد الولائي” باستهداف القوات والسفارة الأمريكية في العراق، بالتوازي مع الدعوة الضمنية لطهران بالتوقف عن تصفية حساباتها مع واشنطن على الساحة العراقية. ويبدو أن “ألوية العتبات” تتجه إلى ترجمة ولاؤها المحلي بالتقارب مع الحكومة والقيادة العامة للقوات المسلحة، مع رفع شعار أنها تمثل “حاضنة الفتوى وبناة الدولة، وتأتمر بأمر القائد العام للقوات المسلحة، وأنها ليس لديها أذرع سياسية، وأوامرها عراقية وليست من دول أخرى” في إشارة إلى إيران.
احتمالات الصدام:
فيما لا تزال المعركة محتدمة بين الجانبين في حيز المبارزة الكلامية، يمكن القول إن ثمة سيناريوهين يمكن أن تتجه هذه المعركة إلى أحدهما خلال المرحلة القادمة وهما:
1- الاقتتال الشيعي – الشيعي: الذي يمكن أن يبدأ مع انتقال التصعيد الخطابي بين الطرفين إلى التصعيد المسلح، لاسيما في ظل دعوات متشددة من “الحشد الولائي” الذي يطالب عناصره بـ”الدفاع عن حشدهم” وفق الخزعلى، بالإضافة إلى المخاوف من أن تكون تصريحات الفياض مقدمة لانفصال “الحشد” مرة أخرى عن القوات المسلحة العراقية هيكلياً، وتتحول بالتبعية إلى مركز قوة سياسي في ضوء طبيعة المرحلة الانتقالية الهشة، كما أن معظم المصادر العراقية ترجح أن “الحشد الولائي” يعتبر أن موازين القوى محسومة لصالحه، حيث أن حجم مكوناته الفصائلية تعادل ضعف مكونات “ألوية العتبات” بالإضافة إلى نوعية التسلح المتفوقة بالتبعية بحكم الدعم الإيراني المباشر.
2- تفعيل عمليات التصفية: وهو ما ألمح إليه الياسري بقوله أن عمليات التصفية تتم بفتاوى وأوامر من خارج العراق. ويرجح العديد من المراقبين المحليين هذا السيناريو، خاصة وأن كلاً من المرجعية والحكومة يشكلان مكابح لفض الاشتباك ما بين الطرفين للحيلولة دون الانزلاق إلى السيناريو الأول على الرغم من أنه لا توجد ضمانات لعدم الانتقال من مرحلة التصفيات إلى مرحلة المواجهة في حال تزايدت بين الطرفين.
لكن أيضاً هناك صعوبة في تحديد طبيعة معادلة الاشتباك المسلح من منظور ميدان المعركة، حيث لا توجد ساحات واضحة سيقف عليها الطرفان. بالإضافة إلى أنه قد لا يكون من مصلحة إيران اندلاع حرب عصابات شيعية – شيعية في المرحلة الراهنة بينما ترى أن فائض جهد “الحشد الولائي” لها ينبغي أن ينصب على مستقبل العملية السياسية مع اقتراب الانتخابات فى أكتوبر المقبل.
متغيرات حاكمة:
وفق هذا التصور، لا ترجح أغلب التقديرات المحلية إمكانية للتراجع عن مسار التصعيد، بالنظر إلى عدة عوامل منها على سبيل المثال:
1- أدوات الصراع وخلفياته: إذ أنه من الصعوبة بمكان حدوث تقارب أيديولوجي بين الطرفين وما يترتب عليه من تداعيات ومظاهر، ومصالح أيضاً، خاصة أن كلا الطرفين بغض النظر عن طبيعة توازنات القوى، يمتلكان السلاح، كما أنه توجد سوابق للتصعيد المسلح في المرحلة السابقة، إذ تم إحراق بعض المقار الحزبية وشن هجمات على منازل الزعامات الدينية وارتكاب عمليات تصفية لبعض النشطاء على خلفية الانتماء الأيديولوجي، مع إسنادها إلى فصائل وعناصر مجهولة.
2- تنامي وتيرة الصراع السياسي: فى خلفية الصراع، هناك نوع من التنافس السياسي بين الطرفين، على الرغم من تأكيد “ألوية العتبات” على أنها لا تعبر عن فصائل حزبية وليس لديها أذرع سياسية، لكن لا يمكن اعتبار أن خطابها غير مسيس، وكلما اقترب المشهد العراقي من الانتخابات المرتقبة سيتنامى هذا التنافس بين الفريقين، خاصة وأن القوى الشيعية تتبنى مواقف مختلفة حيال مشهد الانتخابات، كموقف التيار الصدري المقرب من “حشد العتبات”، والذي أعلن زعيمه مقتدى الصدر عدم المشاركة في الانتخابات، وهو ما اعتبره مراقبون رسالة احتجاج ضمنية على سلوك الأذرع السياسية لـ”الحشد الولائي”.
3- غياب آليات التوافق: ربما ترجح المرجعية العراقية عدم التصادم والاقتتال الشيعي- الشيعي، لكن فى الوقت ذاته لا تسعى إلى الانخراط في جهود للوصول إلى تفاهمات بين هذه الأطراف مكتفية برسائل تحض على الهدوء والاستقرار، حتى لا يحسب عليها طرف يحمل السلاح، فخطاب المرجعية غالباً ما يشير إلى “ألوية الحشد” كـ”متطوعين” وليسوا فصائل. الأمر الآخر هو أن الحكومة ذاتها تحرص على عدم الوصول إلى حافة الهاوية في العلاقة مع الفصائل الولائية، على نحو ما جرى في جولة التصعيد مع مصلح قاسم القائد في “الحشد” والذي جرى توقيفه على خلفية اتهامات بقتل ناشطين، وتم الإفراج عنه من خلال صفقة.
اجمالاً، يمكن القول إن خريطة الولاءات الطائفية في العراق التي تحولت من مرحلة الانشقاق الهيكلي إلى مرحلة التوتر والتصعيد الخطابي، باتت قيد التحول إلى تصعيد مسلح. وفي ظل غياب أدوات نزع فتيل الصدام، فإن ما سيحكم خيارات الأطراف هو مواقف المرجعيات التي تشكل، موضوعياً، المتغير الرئيسي في حالة الاستقطاب الراهنة، والمصالح السياسية على المدى القريب، حيث ستكون الانتخابات محطة من محطات رسم قواعد الاشتباك بين الطرفين. وعلى المدى المتوسط، فإن أى تطور بشأن المرجعية في العراق سيكون محطة مفصلية بين الطرفين في ظل مساعي مرجعية “قم” لأن يكون لها دور أوسع من مرجعية “النجف ” في العراق، ومن المؤكد أن لكل طرف أدواته وأتباعه.