لا يعبر الاهتمام الجزائري بتطورات الأزمة الليبية عن توجه جديد تتبناه الجزائر. لكن الجديد في الأمر هو تصاعد هذا الاهتمام في الفترة الأخيرة، على نحو بدا جلياً في الرسالة الخطية التي بعث بها الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي في 3 فبراير الجاري.
وفي بيان لها، ذكرت وزارة الخارجية الجزائرية أن “وزير الخارجية أحمد عطاف حل في العاصمة الليبية طرابلس، بصفته مبعوثاً خاصاً لرئيس الجمهورية”، مؤكدة على أن “هذه الزيارة تندرج في إطار تجسيد حرص رئيس الجمهورية على الحفاظ على تقاليد التشاور والتنسيق بين الجزائر وليبيا”.
واللافت أن الحفاظ على هذه التقاليد يأتي كنوع من تزايد الاهتمام بالساحة الليبية وتفاعلاتها، حيث إن الجزائر لم تكن بمنأى عن التطورات المتلاحقة التي عرفتها هذه الساحة، وهو ما يُشير إلى عدد من الدوافع التي تستند إليها الجزائر في هذا الاهتمام، في مقدمتها يأتي منظور الأمن الحدودي للجزائر في التعامل مع الأزمة في ليبيا، وتنامي تجارة السلاح والنشاط الإرهابي لجماعات التطرف والعنف، فضلاً عن تحول ليبيا إلى ساحة للصراع بين القوى الخارجية الدولية والإقليمية.
فضلاً عن ذلك، فمن ضمن دوافع الاهتمام مدى ما يفرضه امتداد الأزمة في ليبيا من ضغوط على الداخل الجزائري، وكذا محاولة الجزائر المستمرة للتقارب مع غرب ليبيا نتيجة لموقعه القريب من الحدود الجزائرية الممتدة مع الأخيرة.
عوامل رئيسية
ضمن أهم العوامل الدافعة لتصاعد الاهتمام الجزائري بالتطورات الجارية على الساحة في ليبيا، تبدو العوامل التالية:
1- انكشاف الحدود الشرقية للدولة: أدى انهيار الدولة في ليبيا، منذ عام 2011، إلى انكشاف الحدود الجزائرية الممتدة مع ليبيا أمام كافة أنواع التهديدات الأمنية، خاصة أن هذه الحدود الشرقية والجنوبية الشرقية ذات طبيعة صحراوية جغرافياً وقبلية ديموغرافياً، وهو ما يمكن أن يجعلها فضاءً خصباً لنشاطات الجماعات الإرهابية وشبكات الجريمة المنظمة بكافة أشكالها.
ومن المنظور الجزائري، فإن المسألة بهذا الشكل لا تتعلق بالأزمة الليبية في حد ذاتها، بقدر ما تتعلق بعواقب انهيار الدولة في ليبيا على الأمن القومي للجزائر، وتحديداً على استقرار تخومها، فضلاً عن حدودها، وذلك نتيجة كون ليبيا تُمثل عمقاً استراتيجياً للجزائر، حيث تتشارك الدولتان الحدود الممتدة إلى 989 كيلومتر، وهي حدود طويلة تواجه مهمة ضبطها صعوبات عديدة.
2- تنامي تجارة السلاح والنشاط الإرهابي: مع انهيار المؤسسات الليبية، وخاصة المؤسسات الأمنية المعنية بمراقبة الحدود، تزايد النشاط المتعلق بتجارة السلاح وتهريبه عبر الحدود الليبية، بما أصبح معه هذا النشاط أحد أهم مصادر التهديد لأمن الحدود الجزائرية، بل ومنطقة شمال أفريقيا، فضلاً عن منطقة الساحل الأفريقي، وذلك نتيجة لتداعيات نهب مخازن السلاح الليبي من قِبل المليشيات المسلحة بعد سقوط نظام القذافي.
3- ضغوط الأزمة على الداخل: يفرض استمرار الأزمة في ليبيا، وتداعياتها المختلفة، مزيداً من الضغوط على الداخل الجزائري، ليس فقط من المنظور الأمني والسياسي، ولكن أيضاً على المستويين الاقتصادي والاجتماعي. فقد أدى تفكيك الدولة الليبية، وانهيار مؤسساتها الأمنية، إلى تزايد المخاطر على البنية المجتمعية الجزائرية، لا سيما فيما يتعلق بظهور أطروحات مثل “الفدرلة” في ليبيا.
4- صعوبة استخدام الخيار العسكري: فالجزائر كانت، إلى وقت قريب، تتمسك بمبدأ “عدم مشاركة الجيش الجزائري في أية عمليات عسكرية خارج حدود الوطن”، لكنّ تغير طبيعة التهديدات التي صارت تتعرض لها الجزائر، من محيطها الإقليمي بصفة عامة ومن جوارها الليبي على وجه الخصوص، جعل اتجاهات عديدة تدعو إلى إعادة النظر في هذا المبدأ، ووجوب تغييره. ولعل ذلك ما دفع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى إجراء تعديلات على الدستور في عام 2020، أهمها أنه لأول مرة في تاريخ الجزائر منذ الاستقلال أصبح في الإمكان قيام القوات المسلحة بمهمات خارج الحدود.
وبالرغم من هذه التعديلات؛ إلا أن صانع القرار الجزائري لم يكن ليصرف النظر عن توازنات القوى في الصراع الليبي، خاصة وأنه عامل مؤثر على نحو كبير في تقييد هذا المنحى، من حيث إن مثل هذا التدخل سيؤدي إلى الاصطدام بتركيا، ومن ثم التضحية بالتطورات التي شهدتها العلاقات الجزائرية-التركية خلال السنوات الأخيرة، وأيضاً الاصطدام بإيطاليا التي تُعد شريكاً أساسياً للجزائر في سوق الغاز.
5- أهمية التقارب مع غرب ليبيا: رغم أن الجزائر قد اعتمدت، في فترات طويلة من تاريخها، على مبدأ “الحفاظ على المسافة الفاصلة” من أطراف النزاعات؛ إلا أنها لم تستطع الحفاظ على المسافة نفسها بين الأطراف المتصارعة على الساحة الليبية، خاصة بين شرق ليبيا وغربها. فقد اتخذت موقعاً أكثر اقتراباً من غرب ليبيا عن شرقها، ولعل ذلك يعود، في قسم منه، إلى القرب الجغرافي للعاصمة طرابلس من الحدود الجزائرية، على عكس الشرق الليبي الذي يبتعد كثيراً عن هذه الحدود.
6- تفاقم تداعيات التدخلات الخارجية: وهو ما يتضح عبر محاولة بعض القوى الدولية والإقليمية تعزيز نفوذها داخل ليبيا، مثل فرنسا وروسيا وتركيا، بما ساهم في تحول الساحة الليبية إلى “حلبة تنافس” بين هذه القوى.
ومع إرسال مقاتلين غير نظاميين من بعض تلك القوى وغيرها، مثل “قوات فاغنر” الروسية، و”المقاتلين السوريين” الذين نقلتهم تركيا لدعم القوات الموالية لحكومة “الوفاق” الليبية، ومن بعدها حكومة “الوحدة الوطنية”؛ تزايدت التهديدات الأمنية للجزائر، من منظور أن ليبيا تُمثل عمقاً حيوياً واستراتيجياً لها، وما يحدث بداخلها يرتبط بمصالح الجزائر وأمنها القومي بشكل مباشر.
في النهاية، يُمكن القول إن أسباب التوجهات الجزائرية حيال الأزمة الليبية تكمن في ذلك الكم الهائل من الهواجس الأمنية والمخاوف المتزايدة الناجمة عن انهيار المؤسسات الأمنية الليبية، وخاصة تلك المتعلقة بـ”أمن الحدود”، على نحو يضع دائماً الملف الليبي ضمن أولويات السياسة الخارجية الجزائرية.