شهدت مناطق الشمال السوري، وفي الصدارة منها محافظة إدلب، احتجاجات واسعة ضد “هيئة تحرير الشام” وقائدها أبي محمد الجولاني منذ 27 فبراير الماضي، ووصلت إلى ذروتها في 8 مارس الجاري، حيث طالب المحتجون بإنهاء وجود “الهيئة” في المنطقة، بسبب ممارساتها السلطوية، وتصاعد عمليات العنف الممنهج والاعتقال التعسفي للمدنيين، بالإضافة إلى تدهور الأوضاع المعيشية بالشمال السوري.
وقد تمكنت الاحتجاجات الحالية من استقطاب حشود كبيرة من المدنيين المناهضين لـ”الهيئة”، وكشفت مؤشرات عديدة عن مشاركة أنصار عسكريين محسوبين على “الهيئة” بعد اتهام قادتهم من قبل الجولاني بالعمالة للخارج، واعتقالهم وتجريدهم من مناصبهم القيادية.
ويبدو أن الاحتجاجات الحالية تختلف عما سبقها، ليس فقط في توقيت انطلاقها أو عدد المشاركين فيها؛ ولكن على مستوى الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها، والتي يأتي في مقدمتها محاولة إسقاط “الهيئة” وكوادرها وتفكيك كياناتها المؤسسية، فضلاً عن تحويل الاهتمام الإقليمي والدولي نحو تحشيد الجهود ضد “الهيئة” من أجل إنهاء سيطرتها على مناطق عديدة في الشمال السوري.
أسباب مختلفة
يمكن تفسير تصاعد الاحتجاجات الحالية ضد “هيئة تحرير الشام” في الشمال السوري في ضوء عوامل عديدة يتمثل أبرزها في:
1- مواصلة سياسات القمع والاعتقال: تتبنى الأجهزة الأمنية التابعة لـ”هيئة تحرير الشام” سياسات قمعية وممارسات عنف غير مسبوقة ليس فقط ضد المدنيين المناهضين لتوجهات “الهيئة”، وإنما امتد الأمر إلى حداعتقال قادة من الصف الأول في “الهيئة”، بتهم العمالة للخارج، والتواصل مع كيانات أجنبية، وكان على رأس المعتقلين القيادي أبو ماريا القحطاني، وقادة آخرون من الجناح العسكري لـ”تحرير الشام”. ورغم الإفراج عن عدد منهم، إلا أن حالة الاستياء لا تزال كامنة تحت السطح.
2- استمرار تردي الأوضاع المعيشية: تعاني مناطق الشمال السوري التي تخضع لسيطرة قوات الجولاني من تدهور اقتصادي وأوضاع معيشية صعبة وأزمات حادة، حيث بلغت نسبة المواطنين تحت مستوى خط الفقر نحو 90.93% من إجمالي مليون نسمة يعيشون في تلك المناطق، منهم حوالي 88% يعانون البطالة.
كما تعاني إدلب ومحيطها من ضعف البنى التحتية، وصعوبة وصول المياه والكهرباء للمواطنين، وهو ما أسهم بشكل كبير في تصاعد حدة الاستياء الشعبي. ويشار إلى أن ما يسمى بـ”حكومة الإنقاذ” التابعة لـ”هيئة تحرير الشام” تفرض ضرائب على أي بضائع تأتي إلى إدلب، كما تمسك بمفاصل الاقتصاد المحلي، وتهيمن على كافة الموارد الذاتية في نطاق سيطرتها.
وفي هذا الإطار، يمكن فهم تصاعد حالة الاستياء الشعبي ضد “حكومة الجولاني”. كما بات هناك اقتناع داخلي في شمال سوريا بأن وجود “هيئة تحرير الشام” يستهدف استغلال ثروات المنطقة لصالح عناصرها.
3- تداعيات المواجهات العسكرية مع الخصوم: يرتبط تصاعد حدة الاستياء الشعبي في إدلب ومحيطها بكثافة الضربات والمواجهات العسكرية بين “هيئة تحرير الشام” وقوات الجيش السوري المدعومة من روسيا، والتي تفرض تداعياتها السلبية على سكان إدلب ومحيطها، خاصة في ظل إصرار “الهيئة” على استغلال المدنيين كـ”دروع بشرية” في مواجهة العمليات العسكرية لتلك الأطراف.
4- الإصرار على تأميم المجال العام: ترتبط الاحتجاجات الراهنة، في جانب معتبر منها، بتفاقم حالة الانسداد السياسي في مناطق الشمال السوري، حيث يسيطر الجولاني والموالون له على مفاصل المشهد السياسي والقضائي داخل إدلب والمناطق المحيطة بها. وهنا، يمكن تفسير رفع المحتجين لافتات كُتب عليها “نريد قضاء مستقلاً نزيهاً يحاكم القوي قبل الضعيف والقائد قبل الجندي”.
5- الهيمنة على المساعدات الأممية: لا تنفصل احتجاجات سكان الشمال السوري ضد “حكومة الجولاني” في إدلب عن حالة السخط الشعبي من هيمنة “هيئة تحرير الشام” على المساعدات الأممية المخصصة لإدلب. ففي ظل سيطرتها على إدلب ومعبر باب الهوى، يُحكِم الجولاني قبضته على ملف المساعدات، وتستأثر “حكومة الإنقاذ” بالجانب الأكبر منها، حيث تقوم بتوظيفها لتحقيق مصالح خاصة.
تداعيات محتملة
ثمّة انعكاسات محتملة يُمكن أن تفرضها الاحتجاجات الراهنة في إدلب ضد “هيئة تحرير الشام”، في الصدارة منها تراجع قدرات ونفوذ “الهيئة”، خاصةً أن الاحتجاجات تأتي في ظل توقيت ضاغط على الأخيرة بالنظر إلى الضربات العسكرية التي يشنها النظام السوري وحلفاؤه ضد القواعد الأمنية لـ”الهيئة”، فضلاً عن حالة الاحتقان التي ظهرت مؤخراً على السطح داخل الهياكل الأمنية لـ”الهيئة”.
ولذلك يتوقع أن يتجه الجولانيإلى عدم استخدام ما تسميه اتجاهات عديدة بـ”القوة المفرطة” في مواجهة الحراك الاحتجاجي الراهن الذي يتميز بالزخم والقوة، بل ربما يعمل على تعزيز مساحات التفاهم مع مطالب المحتجين من خلال تقديم تنازلات في الملفات الداخلية.
ويشار في هذا الصدد إلى أن المركزية الشديدة التي كانت تتسم بها “تحرير الشام” في السابق تعاني في التوقيت الحالي من ضعف لافت، كشف عنه اتساع نطاق الخلافات بين الجولاني وعدد من القيادات الأمنية في إدلب، بالإضافة إلى اهتزاز العلاقة مع بقية المكونات الأمنية والعسكرية في إدلب ومحيطها.
ومن هنا، يُتوقع تراجع نفوذ “الهيئة” في شمال سوريا، إذ ترى اتجاهات عديدة أن نجاح الحراك الاحتجاجي الراهن، وعدم قدرة الأجهزة الأمنية الموالية للجولاني على احتواءه ووقف تمدده كما في السابق؛ قد يساهم في إضعاف دور “هيئة تحرير الشام” في مناطق رئيسية في شمال سوريا خلال المرحلة المقبلة.
في المقابل، قد توفّر الاحتجاجات الراهنة ضد “هيئة تحرير الشام” في إدلب فرصة مواتية أمام تنظيم “داعش” لمحاولة استعادة مركزيته في الشمال السوري، وتعزيز نفوذه داخل سوريا. وربما تكشف العمليات النوعية التي قام بها “داعش” مؤخراً في سوريا وتركيا عن أن التنظيم لا يزال يمثل تهديداً، ويملك بعض القدرات التي يراهن على توظيفها لاستعادة نشاطه.
ولذلك، فإنّ حالة الهشاشة الأمنية التي تعانيها “حكومة الإنقاذ” الموالية للجولاني، وتصاعد حالة عدم الاستقرار السياسي بفعل الاحتجاجات الراهنة، وصعوبة السيطرة عليها، فضلاً عن تراجع عمليات التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب؛ كلها عوامل ربما توفر مجالاً لتوسيع نشاط “داعش” داخل الأراضي السورية على حساب نفوذ “الهيئة”.
ختاماً، يمكن القول إن الاحتجاجات التي تشهدها إدلب ضد “هيئة تحرير الشام” تبدو كاشفةً عن تصاعد حالة الاستياء ضد التنظيمات الإرهابية في الداخل السوري، كما تؤشر في المقابل إلى فشل مشاريع “الهيئة” في الداخل السوري، خاصة بعد ما بات واضحاً أن سعيها المكثف لاستخدام الشعارات الدينية جاء في سياق التوظيف البراجماتي لها لتحقيق الأهداف الآنية والمحدودة لقيادات “الهيئة” وكوادرها.