تكريس النفوذ:
دوافع تركيا لتأسيس قاعدة عسكرية جديدة في سوريا

تكريس النفوذ:

دوافع تركيا لتأسيس قاعدة عسكرية جديدة في سوريا



بدأت تركيا، في 10 نوفمبر الجاري، العمل لتدشين قاعدة عسكرية جديدة في شمال سوريا، واستقدمت القوات التركية معدات بناء، وأقامت سواتر ترابية في غرب عين عيسى بريف الرقة الشمالي ضمن مناطق سيطرة الفصائل الموالية لها وفصائل “الجيش الوطني السوري” المدعومة من جانبها.

 ويطرح ذلك تساؤلات عديدة حول الدوافع التي تقف وراء اهتمام تركيا بتوسيع وجودها العسكري في سوريا، فضلاً عن التداعيات المُحتملة لهذه الخطوة، ولا سيما في ظل تصاعد التوتر بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية على الساحة السورية، بسبب إصرار الأخيرة على دعم مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) التي تعدها تركيا امتداداً لـ”حزب العمال الكردستاني”.

أسباب رئيسية

هناك عدة دوافع قد تقف وراء سعي تركيا لإقامة قاعدة عسكرية جديدة في ريف الرقة في التوقيت الحالي، برغم وجود قاعدتين عسكريتين للقوات التركية في ريف عيسى، يمكن تناولها على النحو التالي:

1- مواجهة انتشار قوات التحالف بشمال سوريا: تعمل تركيا على تكثيف حضورها العسكري في منطقة شمال سوريا بهدف مواجهة الانتشار الاستراتيجي والعسكري المكثف لقوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في هذه المنطقة، حيث جلبت قوات التحالف، في 9 أكتوبر المنقضي، رتلاً عسكرياً جديداً من إقليم كردستان العراق من خلال معبر “الوليد”، باتجاه قواعد التحالف في الحسكة. كما عزز التحالف الدولي من قواته في مناطق الشمال السوري، على نحو بدا جلياً في إرسال تعزيزات عسكرية جديدة إلى قواعد التحالف في محافظة دير الزور.

ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى زيارة قائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال مايكل كوريلا في 23 أغسطس الماضي، مخيمي الهول والروج، اللذين تسيطر عليهما “قسد” شمال الحسكة، حيث التقى مسئولين من “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، على نحو أثار قلق أنقرة التي تعارض الدعم الأمريكي لعناصر “قسد”.

2- توسيع نطاق التصعيد مع عناصر “قسد”: على الرغم من محاولات ضبط حدود الصراع بين تركيا والمليشيا الكردية في سوريا، فإن التوتر والعداء لا يزال السمة الأبرز للتفاعلات التي تجري بين الطرفين، ولا سيما فيما يتصل باتهام أنقرة لـ”حزب العمال الكردستاني” بتنفيذ هجوم وزارة الداخلية التركية مطلع أكتوبر الماضي، فضلاً عن سعي القوى الكردية في الإقليم لتأسيس كيانات انفصالية بدعم من واشنطن، وهو ما تراه تركيا تهديداً لأمنها القومي، وتشي هذه الخطوات -من وجهة نظر تركية- باحتمالية تمدد المواجهات العسكرية مع عناصر “قسد”.

وهنا، يمكن تفسير تحرك تركيا نحو إقامة قواعد عسكرية جديدة في شمال سوريا بأنه ربما يأتي استعداداً من جانبها لأية مواجهة مستقبلية مُحتملة مع “قسد”. وتجدر الإشارة إلى أن الفترة الماضية شهدت تصعيداً لافتاً بين الطرفين، فبينما استهدفت الضربات التركية، في 9 أكتوبر الفائت، مركز تدريب تابعاً لقوى الأمن الداخلي “الأسايش”، في منطقة كوغرات بريف المالكية بمحافظة الحسكة، فقد أعلنت قوات “قسد”، في 19 من الشهر نفسه، استهداف قاعدتين للقوات التركية في منطقة “تينة” في الجهة المقابلة لعين عيسى ومنطقة “مردود” غرب تل أبيض بريف الرقة ضمن منطقة “نبع السلام”.

3- تقليص الفجوة العسكرية مع القوى المنافسة: تمتلك تركيا نحو 125 موقعاً عسكرياً، منها 12 قاعدة عسكرية و113 نقطة عسكرية في مناطق شمال سوريا، متفوقة بذلك على بعض الأطراف الإقليمية والدولية المنخرطة في الساحة السورية؛ إلا أنها تريد موازنة الحضور العسكري الإيراني الذي شهد توسعاً خلال الفترة الماضية، حيث باتت تمتلك طهران-حسب بعض التقديرات-570 موقعاً عسكرياً، منها 55 قاعدة عسكرية و515 نقطة عسكرية.

وبالتالي، فإن اتجاه تركيا نحو إقامة قاعدة عسكرية جديدة في الداخل السوري، يمثل محاولة من جانبها لتقليص الفجوة في الإمكانات والقدرات العسكرية بينها وبين الأطراف الأخرى المنخرطة في الأزمة السورية، وخاصة إيران.

4- دعم الحضور في الداخل السوري: لا تنفصل رغبة أنقرة عن تأسيس قاعدة جديدة في شمال سوريا عن سعيها لتعزيز قدراتها،وهو ما يكتسب أهمية خاصة من جانبها في التوقيت الحالي، في ظل الجهود التي بذلتها في الفترة الماضية لإنهاء مشروع الإدارة الذاتية الكردية، أو على الأقل محاصرة أو تقليص حضور الأكراد على الساحة السورية.

ومن هنا، وبعد إخفاقها في تحقيق ذلك، فإنها تجد نفسها بحاجة إلى إعادة تكثيف حضورها العسكري في مناطق نفوذها على الساحة السورية، باعتبار ذلك يمثل أولوية في التوقيت الحالي لعرقلة محاولات أو ترتيبات الأكراد المدعومين من واشنطن لإعادة هندسة المشهد السوري وفقاً لمصالحهم.

تداعيات محتملة

يفرض تأسيس تركيا قاعدة إضافية جديدة في سوريا العديد من التداعيات المُحتملة، في الصدارة منها تنامي النفوذ التركي في الداخل السوري، وتصاعد دور أنقرة ونفوذها السياسي والعسكري في مناطق الشمال السوري التي تستهدف تطهيرها من العناصر الكردية.

بالتوازي مع ذلك، يتوقع أن تسفر الخطوة التركية عن تصاعد حدة المواجهات القائمة بين أنقرة و”قوات سوريا الديمقراطية”، فمن شأن تعزيز تركيا قدراتها العسكرية أن يزيد من حدوث صدام بين الطرفين خلال الفترة المقبلة. ومن مؤشرات ذلك تطوير التعاون العسكري بين “قسد” وواشنطن، بالإضافة إلى توسيع التحالف الدولي لوجوده العسكري في المناطق الخاضعة لنفوذ “قسد”، خاصة في ظل استمرار الضربات العسكرية التركية على مناطق الشمال السوري بدعوى مواجهة “حزب العمال الكردستاني”.

في المقابل، يتصاعد القلق الأمريكي بشأن التداعيات الاستراتيجية التي يمكن أن يسفر عنها تعزيز الوجود العسكري التركي في مناطق شمال سوريا، إذ إن ثمة تحذيرات في واشنطن من مخاطر إقامة قاعدة عسكرية تركية جديدة في شمال سوريا، وهو ما تعكسه الزيارات المستمرة لمسئولي وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) لمناطق الشمال السوري. ولذلك، يتوقع أن تتخذ واشطن خطوات جديدة في سبيل إضعاف النفوذ التركي في الداخل السوري أو على الأقل تحييد مفعوله.

على صعيد متصل، وبالنظر إلى ارتباط الأمن القومي الإيراني بالساحة السورية، من المُتوقع أن تثير خطط تركيا لإقامة قواعد عسكرية جديدة في سوريا قلق طهران من إمكانية استخدام الأولى هذه القواعد لتمديد نفوذها في سوريا على حساب طهران والنظام السوري.

وفي ضوء ما سبق، يمكن القول إن توجه تركيا نحو إنشاء قاعدة عسكرية جديدة في الشمال السوري لا ينفصل عن التوجهات العامة للاستراتيجية التركية، والتي تستهدف تعزيز طموحاتها للتحول إلى قوة إقليمية قادرة على المشاركة في ضبط إيقاع صراعات المنطقة، والتحول إلى رقم مهم فيها، حال التوجه إلى أي تسوية سياسية، فضلاً عن سعي أنقرة إلى موازنة القدرات العسكرية لمنافسيها على الساحة السورية، وكذلك الاستعداد لأية مواجهة مستقبلية مُحتملة مع قوات “قسد” المدعومة أمريكياً.