دلالات التوقيت
دوافع تأسيس الفرقة “153” متعددة الجنسيات في البحر الأحمر

دلالات التوقيت

دوافع تأسيس الفرقة “153” متعددة الجنسيات في البحر الأحمر



أعلنت القيادة البحرية الوسطى الأمريكية في الشرق الأوسط، في 13 أبريل الجاري، عن إنشاء الفرقة CTF-153 متعددة الجنسيات لتعزيز الاستقرار والأمن في البحر الأحمر والمنطقة، ولا سيما فيما يتعلّق بمكافحة الأنشطة غير المشروعة كعمليات تهريب الأسلحة والمخدرات. ومن المقرر أن تبدأ الفرقة الجديدة مهمتها رسمياً في 17 من الشهر الجاري، وفق إعلان الأدميرال براد كوبر قائد الأسطول الخامس في البحرين. كما ستتمركز CTF-153 بشكل رئيسي في القطاع الجنوبي من البحر الأحمر عند مدخل باب المندب وخليج عدن، بقوة قوامها ما بين 2-8 قطع بحرية، وأعلنت القيادة البحرية أنها ستنقل القيادة لاحقاً إلى قوة إقليمية لم تكشف عنها حالياً.

وعلى الرغم من أن الإعلان الرسمي عن الفرقة الجديدة لم يتضمن تحديد أطراف معينة مقصودة بالعملية أو المهمة الجديدة، وهو سياق متبع بشكل عام في العمليات العسكرية الدولية التي تقوم بمهام عملياتية وإجرائية، كالعملية “إيريني” في شرق المتوسط التي تضطلع بمهمة مراقبة حظر وصول الأسلحة إلى ليبيا؛ لكن رمزية الموقع الجغرافي والتوقيت بالنظر إلى طبيعة التفاعلات الدولية والأوضاع الإقليمية الراهنة ربما يطرح دلالات تتجاوز ما اختزله الأدميرال كوبر في البيان الصحفي للإعلان عن القوة الجديدة.

أسباب متعددة

يمكن تفسير الإعلان عن إنشاء تلك الفرقة في ضوء دوافع عديدة يتمثل أبرزها في:

1- ترتيبات أمن إقليمي جديدة: فرضت طبيعة الشرق الأوسط ترتيبات أمنية بشكل دوري. وقد مثّلت عملية إنشاء القيادة الوسطى الأمريكية في الشرق الأوسط (سنتكوم) بهيكلها الحالي في ثمانينيات القرن الماضي لبنة رئيسية لهذه الترتيبات التي جاءت في ضوء متغيرات أمنية هائلة في المنطقة، تركّزت في السابق على المسرح البحري في الخليج، ومواجهة التهديدات الناشئة في خلال فترات حروب الخليج المتعددة، وبالتالي فإن التمدد الجيوسياسي للقيادة الوسطى من الخليج إلى البحر الأحمر يتماشى مع تمدد التهديدات بين المنطقتين في ظل حرب اليمن، وما فرضته من تداعيات وتهديدات نوعية ألقت بظلالها على حالة الأمن الإقليمي بشكل عام. ومن المتصور أن هذا التطور هو امتداد لنقاشات واسعة بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في المنطقة، مع الوضع في الاعتبار أن هذا التمدد لا يشكل سابقة، فقد جاء بعد أربعة تطورات عملياتية سابقة تضمنت نشر فرق متخصصة في منطقة الخليج ومحيطها.

2- منح الأولوية للأمن الملاحي: وهو ما يفسر تسليط الضوء على إيران وبالتبعية وكيلها اليمني “الحوثيين”. وعلى الرغم من عدم تصريح كوبر المباشر بهذا الأمر، إلا أن أغلب أنشطة التهريب تتم قبالة السواحل اليمنية، في المسرح الممتد من مدخل البحر الأحمر باتجاه الجنوب مع القرن الإفريقي والشرق مع بحر العرب. وفي بداية الأمر، كان الهدف الرئيسي هو بناء وتعزيز الترسانة العسكرية للحوثيين، ولا سيما من الصواريخ والطائرات من دون طيار “الدرونز”. لكنّ التقارير الدورية الأخيرة لخبراء الأمم المتحدة والمبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود كشفت، في أبريل الجاري، عن أن اليمن أصبحت دولة عبور للأسلحة الإيرانية إلى القرن الإفريقي، وأنّ هذه الأسلحة تقع في يد تنظيمات إرهابية كـ”القاعدة” و”داعش”، ولم تعد تقتصر على دعم مليشيات متمردة في مناطق مثل الصومال أو دول القرن الإفريقي ودول الساحل.

3- إعادة هيكلة الانتشار الأمريكي: هناك عملية هيكلية كاملة للانتشار الأمريكي في المنطقة، ويبدو أنها جزء من خطة أمريكية تشمل عملية مراجعة الانتشار الخارجي الأمريكي بشكل عام. وتشمل عملية الانتشار الأمريكي الجديدة في المنطقة إعادة تموضع عسكري مختلف يناسب مستقبل الوجود العسكري الأمريكي في المستقبل، بالمشاركة مع الحلفاء الإقليميين للولايات المتحدة الأمريكية. ويمثل هذا التطور نقطة التحول في طبيعة الانتشار الأمريكي في مرحلة ما بعد الانسحاب من أفغانستان والعراق، وبالتالي هناك حقبة جديدة لهذا التواجد ترى فيها بعض التقديرات الأمريكية أنها تتماشى والسياسات الداخلية الأمريكية القائمة على وقف الانخراط في حروب خارجية وإعادة القوات المقاتلة إلى البلاد، وتقديرات أخرى ترى أنها تتوافق مع مسار السلام الإبراهيمي الذي يُهيّئ لعملية إدماج إسرائيل أمنياً في المنطقة، في مقابل تقويض الحضور الإيراني المتنامي في البحر الأحمر سواء بشكل مباشر أو عبر الوكيل الحوثي، على نحو جلب معه الكثير من التهديدات التي أصبح من الصعوبة بمكان التعامل معها عن بعد، مما اقتضى تمديد نطاق العمليات والأصول العسكرية الدفاعية في المنطقة.

4- تقويض نفوذ المنافسين الدوليين: ترى الولايات المتحدة الأمريكية أن التمدد البحري لكل من الصين وروسيا في المنطقة يشكل تهديداً لنفوذها بطبيعة الحال، وربما انتهزت الأولى فرصة الحرب الروسية على أوكرانيا من أجل العمل على تقليص مساحة النفوذ الروسي في المنطقة وليس فقط إيران، خاصة وأن البحرية الروسية حاولت التواجد في المنطقة بشكل دائم، على نحو بدا في مؤشرات عديدة منها سعيها لإنشاء قاعدة بحرية في بورسودان، ونقاط لوجستية أخرى تصلها بالمحيط الهندي حيث تنشر أسطولاً بحرياً في تلك المنطقة كجزء من استراتيجيتها البحرية العالمية. ويرى العديد من المراقبين أن الحرب الروسية على أوكرانيا ربما كان لها الفضل في إعادة اكتشاف واشنطن لأهمية منطقة الشرق الأوسط مجدداً، وأن الانسحاب من الأخيرة سيُغري منافسي الولايات المتحدة الأمريكية على ملء هذا الفراغ. وبالتالي فإن زيادة الأصول البحرية الأمريكية عموماً وزيادة الأنشطة والفعاليات البحرية واستقطاب الحلفاء سيسمح لها بالانفراد بالهيمنة والنفوذ البحري مقابل كل من الصين وروسيا.

هيكل القيادة

تشمل عملية إنشاء القيادة الجديدة ترقية الأصول العسكرية في المنطقة، فالقيادة الأمريكية الجديدة في البحر الأحمر ستضم من 2-8 قطع بحرية استراتيجية، لكن من اللافت أن السفينة “Mount Whitney USS” ستنضم إلى هيكل القيادة الجديد، وهي سفينة قيادية كانت تدير الأسطول السادس من نابولي ومثلت رمزاً أيضاً للترتيبات ما بين قيادة الأسطول السادس الأمريكي وحلف “الناتو”، والقيادة الأمريكية في إفريقيا “أفريكوم”، وتم استبدالها بقطع عسكرية جديدة للقيادة في أوروبا. وبحسب التقارير الأمريكية، فإن عملية الترقية تشمل الأنظمة الدفاعية والهجومية ذاتية القيادة أو غير المأهولة، ويعتقد أن هناك إرهاصات أيضاً لهذه الخطوة تمثلت في إنشاء الفرقة 59 ضمن “سنتكوم” لمواجهة التهديدات غير النمطية من الدرونز الجوية والبحرية. كما تم إجراء تجارب باستخدام أسلحة الليزر لاعتراض زوارق مفخخة وطائرات من دون طيار العامين الماضيين من على متن السفينة الأمريكية “يو إس إس بورتلاند” في المنطقة نفسها التي ستتواجد فيها الفرقة، ولكن ربما يكون الأهم في هذا المؤشر هو قدرة المجموعة الجديدة على التنسيق متعدد الأطراف في المنطقة لتبادل المعلومات والقدرة على مواجهة التحديات المشتركة.

ومن المرجّح أيضاً أنه ستكون هناك دورية في القيادة العملياتية للمجموعة الجديدة، وهو ما أشار إليه كوبر، وهي أقرب إلى طبيعة القيادة الأوروبية، للتمييز ما بين القيادة الدولية التي تمثلها الولايات المتحدة الأمريكية والقيادة الإقليمية، مع عدم الفصل فيما بينهما. وفي الأخير، ستبقى القيادة الأمريكية في البحرين هي المركز الرئيسي للقيادة، وهي مسألة جوهرية، خاصة وأن هناك تباينات في وجهات النظر لدى بعض الأطراف الإقليمية. فعلى سبيل المثال، تسعى إسرائيل إلى إظهار دور القيادة الإقليمية في مواجهة إيران، ولا يعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية نفسها تتفق مع الاندفاعة الإسرائيلية نحو هذا الاتجاه، وبالتالي فإن القوة الجديدة تعكس المنظور الأمريكي بأن واشنطن ستواصل ممارسة الدور القيادي في ترتيبات الأمن الإقليمي، وهو أمر مهم لضبط الإيقاع والقيادة والسيطرة. ومن ناحية أخرى، فإن هناك أطرافاً إقليمية ترغب في أن يكون اندماج إسرائيل أمنياً في الإقليم من خلال الولايات المتحدة الأمريكية، وعبر القيادة الوسطى، على نحو يعني أنها ستنسق مع القيادة وليس مع إسرائيل مباشرة.

رؤية مستقبلية

تتوقف هذه الرؤية على القدرة على إنجاز الأهداف والدوافع، وفي المقام الأول منها تقويض التهديدات الأمنية في منطقة البحر الأحمر، وضبط التوازنات الإقليمية والدولية. ويعتقد أن عملية انتشار في هذه المنطقة ستلعب دوراً رئيسياً بالفعل في الحد من الأنشطة غير المشروعة كتهريب الأسلحة والمخدرات، خاصة قبالة السواحل اليمنية، ومن المتصور أن المهمة الجديدة سيمكنها لاحقاً استيعاب العمليات العسكرية البحرية التي يقوم بها التحالف العربي في اليمن، إذا ما تطورت الهدنة التي ترعاها الأمم المتحدة مع الحوثيين إلى اتفاق أمني يُنهي تماماً دور التحالف في العمليات العسكرية. بالإضافة إلى البعد اللوجيستي الآخر في تطوير عملية مشاركة القيادة الإقليمية متعددة الأطراف. لكن في مقابل ذلك، فإن هناك تحديات قائمة بطبيعة الحال في المقدمة منها أنه لا يعتقد أن إيران ووكلاءها سيرضخون للأمر الواقع، بل على العكس من ذلك، فإن الهيكل الجديد سيكون هدفاً لها إن لم تكن هناك مقاربة جديدة في العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران في إطار مسار تسوية أزمة الملف النووي.