تعزيز الولاءات:
أبعاد الرهان التركي على برامج التدريب العسكري

تعزيز الولاءات:

أبعاد الرهان التركي على برامج التدريب العسكري



شكّلت برامج التدريب والتعليم العسكري واحدة من الأدوات التي اعتمدت عليها أنقرة، خلال السنوات الماضية، من أجل التكريس لحضورها ونفوذها في الخارج، فقد نظرت أنقرة إلى مثل هذه البرامج بوصفها الجزء الناعم من عسكرة السياسة الخارجية التركية، لا سيما أن برامج التدريب انطوت على تعزيز العلاقات مع أطراف مختلفة، واعتمدت أنقرة في هذا الإطار على حالة الهشاشة والضعف التي تعاني منها العديد من الدول، ناهيك عن حالات الانتقال السياسي التي تمر بها هذه الدول واحتياجها لمساعدة أطراف خارجية في عملية إعادة بناء المؤسسات الأمنية والعسكرية.

خريطة التعاون العسكري

يكشف تتبع النشاط العسكري التركي الخارجي عن حالة من التوسع الجغرافي، ومحاولة التركيز على المناطق التي حاولت أنقرة تعزيز حضورها فيها عقب إخفاقها في الانضمام إلى المنظومة الأوروبية. وعليه، تضم خريطة التعاون التركي في مجال التدريب والاستشارات العسكرية مجموعة من الدول متمثلة فيما يلي:

*) الصومال: سعت تركيا إلى توطيد علاقتها بمقديشو خلال السنوات الماضية، وتجلى ذلك مع إقامة قاعدة عسكرية تركية في مقديشو عام 2017 لتدريب الجنود الصوماليين. ووفقًا لتصريحات السفير التركي في الصومال “محمد يلماز”، في مقابلة له مع وكالة الأناضول خلال شهر أغسطس 2020، فإن “العسكريين الصوماليين يخضعون للتدريب في القاعدة لمدة ثلاثة شهور، ثم ينقلون إلى مركز الكوماندوز بولاية إسبرطة التركية لتلقّي تدريبات إضافية لمدة مماثلة، ثم ينضمون إلى الجيش الصومالي لتنفيذ المهام الموكلة إليهم”.

وأضاف السفير التركي أن “ثلث الجيش الصومالي خضعوا أو من المخطط خضوعهم للتدريب العسكري التركي. كما أنهت مديرية الأمن التركية، تدريب 600 عنصر من القوات الخاصة التابعة للشرطة الصومالية”.

*) نيجيريا: أعلنت تركيا عام 2018 تفعيل اتفاق التعاون مع نيجيريا في مجال التدريب العسكري، وتنص الاتفاقية على إنشاء مقرات مشتركة وتنفيذ مناورات ثنائية، وتبادل الوفود العسكرية وإرسال مراقبين لمناورات البلدين.

*) غامبيا: ترتبط تركيا وغامبيا بتعاون عسكري قديم نسبيًّا، منذ إنشاء فريق تدريب الدرك التركي للجيش الغامبي عام 1991. حيث قام العسكريون الأتراك الذين سافروا إلى غامبيا بتدريب 7000 جندي غامبي تقريبًا حتى عام 2007. وهو التاريخ الذي انتهت فيه اتفاقية التدريب بين البلدين. لكن، ومنذ ذلك الحين، بدأت القوات الغامبية في تلقي التدريب في تركيا، حيث تدرب حوالي 500 جندي غامبي في تركيا، طبقًا لتصريحات العقيد “نهاد أكتورك”، المستشار العسكري التركي للرئيس الغامبي ومدير مدرسة تدريب القوات المسلحة الغامبية في العاصمة بانجول، لوكالة الأناضول في شهر إبريل 2019، وذلك بالإضافة إلى تلقي عسكريين غامبيين التعليم الجامعي في تركيا، وإجادة اللغة التركية.

*) النيجر: حيث أشارت العديد من التقارير، في شهر يوليو 2020، إلى أن تركيا والنيجر بصدد التوقيع على اتفاقية عسكرية شاملة، وهي الاتفاقية التي ستقوم تركيا بموجبها بإنشاء قاعدة عسكرية استراتيجية برية وجوية إلى جانب تدريب جيش النيجر وتزويده بالأسلحة، فضلًا عن تدريب قوات الأمن.

*) أذربيجان: وقّعت تركيا وأذربيجان عام 1992 اتفاقية تدريب عسكري لإنشاء وتدريب الجيش الأذربيجاني. كما أرسلت باكو طلابًا للتعلم في الأكاديميات العسكرية التركية. ووقعت الدولتان اتفاقًا عام 2005 ينص على تقديم تركيا لأذربيجان منحة بقيمة 2.1 مليون دولار، تُستخدم في تدريب العسكريين الأذربيجانيين بمراكز التدريب العسكري التابعة للقوات المسلحة التركية ولحلف الناتو.

*) كازاخستان: شهدت العلاقات العسكرية بين تركيا وكازاخستان تطورًا ملحوظًا على مدار العقدين الماضيين، فهناك العديد من الطلاب الكازاخستانيين يتلقون تدريبهم في مدارس الخدمة العسكرية بتركيا، وفي مجالات عسكرية مختلفة، ومنها مجال الأمن السيبراني. وقد أكد وزير الدفاع التركي “خلوصي أكار”، في شهر أكتوبر 2020، على أهمية التعاون العسكري بين الدولتين، حيث صرح على هامش لقائه مع وزير الدفاع الكازاخستاني في أنقرة، بأن “العلاقات القائمة في مجالي التدريب العسكري والصناعات الدفاعية ستستمر في زخمها، وأن ذلك سيكون مفيدًا جدًا للبلدين وللقوات المسلحة فيها”.

الدوافع التركية

ترتبط سياسة التعاون العسكري التركية بعدد من الدوافع التي تخدم المصالح التركية، وتتبلور أهم هذه الدوافع في الآتي:

أولًا- تعزيز الولاء: تفترض العديد من التحليلات أن التدريبات التي تم تقديمها لمقاتلين سوريين قد عززت ولاءهم لتركيا. وهو ما يمكن حدوثه، ولو بدرجة أقل، في الجيوش النظامية بتعزيز العاطفة والتقدير تجاه القادة العسكريين الأتراك. وعلى سبيل المثال، فإن الجنود والضباط الصوماليين الموجودين في الكلية الحربية يتعلمون اللغة التركية، وبحسب بعض التقارير، فإنهم يرددون في الاجتماع الصباحي نشيد القوات الحربية ومعزوفة إزمير العسكرية التركية بجانب النشيد الوطني الصومالي.

ثانيًا- الصورة الدولية: فالتدريب العسكري يُعتبر واحدًا من أهم أدوات القوة الناعمة التي تستخدمها تركيا لتعزيز صورتها الخارجية، وصياغة صورة لها كدولة تساعد في إعادة بناء مؤسسات الدول الهشة، وتساعد على تحقيق الاستقرار الإقليمي. وفي السياق ذاته، تحاول تركيا، عبر التعاون العسكري، أن تُبعد عن نفسها تهم دعم وتمويل الإرهاب التي تلاحق النظام التركي. وهو ما يتم عبر تدريب الجيش الصومالي في مواجهة حركة الشباب، وكذلك تدريب الجيش النيجيري في مواجهة بوكو حرام. حيث تظهر تركيا بصورة الداعم للجيوش الوطنية في مواجهة الحركات الإرهابية.

ثالثًا- بناء النفوذ: فقد استهدفت برامج التعاون العسكري التركية توسيع شبكة التحالفات التركية مع الدول والأطراف الأخرى، مما يعزز من النفوذ التركي في الإقليم، وفي إفريقيا، وبما يخدم السياسة الخارجية التركية. ولا يمكن إغفال أن هذا الأمر يتصل بالتحولات في السياسة الخارجية لأنقرة، حيث بذلت جهودًا كبيرة لإعادة وضع تركيا باعتبارها “دولة مركزية” بدلًا من “جسر” بين الشرق والغرب. ومن ثم يمكن القول، إن سياسة التعاون العسكري كانت بمثابة مدخل للحصول على “الاعتراف بالتواجد والدور” التركي، إذ إن العلاقات بين الدول هي تعبير عن الوضع البشري، الذي يصفه الفيلسوف الألماني “هيجل”، بأنه “صراع يسعى فيه كل فرد إلى انتزاع الاعتراف من الآخر”.

رابعًا- الترويج للصناعات العسكرية التركية: يؤدي التعاون في مجال التدريب العسكري إلى تعزيز التعاون في مجالات أخرى، على رأسها التصنيع العسكري وبيع المعدات العسكرية، وذلك للارتباط الشديد بين التدريبات والأسلحة. ويعد التعاون التركي القطري نموذجًا هامًا هنا، فبالتوازي مع التعاون في مجال التدريب، أصبحت تركيا مصدرًا للأسلحة التركية، ولعل هذا ما ظهر مع الاتفاقية الموقعة بينهما في عام 2019، والتي نصت على بيع تركيا لقطر 100 دبابة تركية من طراز Altay محلية الصنع.

خامسًا- مواجهة خصوم تركيا: حيث استخدمت تركيا التعاون العسكري كأداة لمواجهة خصومها، سواء كانوا خصومًا إقليميين، أو خصومًا داخليين على غرار حركة “جولن”، فالعلاقة بين النظام والحركة بدأت في التراجع منذ عام 2013 لتصل إلى مرحلة العداء الكامل مع الاتهامات التي وجهها “أردوغان” للحركة، عقب محاولة الانقلاب على حزب العدالة والتنمية عام 2016، بإدارة دولة موازية تسعى للإطاحة بحكمه، وعليه سعت أنقرة إلى تقويض تواجد جماعة كولن في إفريقيا.

وفي هذا السياق، لجأت أنقرة خلال السنوات الأخيرة إلى الضغط على دول القرن الإفريقي من أجل إغلاق المدارس التابعة لجماعة جولن عبر ورقة المساعدات وتوفير برامج تعليمية، وهو ما دفع دول المنطقة إلى الاستجابة بشكل أو بآخر لهذه الضغوط، وتُعتبر الصومال النموذج الأهم في هذا السياق، فعقب محاولة الانقلاب على النظام الحاكم في تركيا عام 2016 اتجهت الصومال إلى إغلاق المدارس التابعة للحركة.

وختامًا، يُرجَّح أن تستمر أنقرة في المراهنة على ورقة التعاون في مجال التعليم والتدريب العسكري، باعتباره يمثل مجالًا ذا أهمية كبيرة للقوى التي تتطلع إلى لعب أدوار إقليمية ودولية كبرى. ويساعدها على ذلك طبيعة الدول التي تتلقى المساعدات من تركيا، وما تواجهه من مشكلات يدفعها لطلب الدعم الخارجي.


الكلمات المفتاحية: