استهداف القيادات:
دوافع اهتمام واشنطن بمواجهة “داعش الصومال”

استهداف القيادات:

دوافع اهتمام واشنطن بمواجهة “داعش الصومال”



يمثل استهداف القوات الأمريكية للقيادي البارز في تنظيم “داعش”، المدعو بلال السوداني، ضربة لشبكات تمويل التنظيم السرية العابرة للحدود، في ظل تركيز الولايات المتحدة الأمريكية، سواء بصورة منفردة، أو من خلال التحالف الدولي لمواجهة “داعش”، على تفكيك شبكات التنظيم، لعرقلة محاولات أفرعه إعادة بناء القدرات، وإبقاء التنظيم تحت ضغوط عمليات مكافحة الإرهاب.

أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية، في بيان لوزير الدفاع لويد أوستن، في 26 يناير الجاري، عن مقتل قيادي كبير بتنظيم “داعش” في الصومال، يُدعى بلال السوداني، إضافة إلى 10 من مرافقيه، في عملية للقوات الأمريكية الخاصة، في موقع جبلي يتحصن به في شمالي الصومال.

وعلى الرغم من أن السوداني ليس زعيماً لتنظيم “داعش” في الصومال، إلا أن عملية الاستهداف تحظى باهتمام كبير داخل واشنطن، نظراً للقوة النسبية ومكانة السوداني داخل التنظيم، إضافة إلى الأدوار التي كان يضطلع بها، والتي تتجاوز فرع “داعش” بالصومال.

أبعاد عديدة

تشير التفاصيل الرسمية وغير الرسمية، عن عملية استهداف السوداني، إضافة إلى طبيعة دوره في الصومال، إلى جملة من الأبعاد والسياقات، أبرزها:

1- القيمة النسبية للسوداني بتنظيم “داعش”: يمثل استهداف القيادي في تنظيم “داعش” أهمية كبيرة لدى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يُصنف بأنه هدف “عالي القيمة”،نظراًلطبيعة دوره الذي يتجاوز حدود نشاط التنظيم داخل الصومال، إلى تأسيس شبكات سرية للتنظيم في أفريقيا خلال العقد الماضي، في ضوء خبراته الكبيرة السابقة قبل الانضمام لـ”داعش”، إذ كان قيادياً في حركة “شباب المجاهدين” الصومالية، الموالية لتنظيم “القاعدة”.

وقد أدرجت وزارة الخزانة الأمريكية السوداني عام 2012، على لائحة العقوبات، في ظل مهامه مع حركة “الشباب”، وتحديداً لدوره في عمليات التمويل، إضافة إلى المساعدة في انتقال مقاتلين أجانب إلى معسكرات التدريب في الصومال.

وربما كان أحد أبرز الدوافع لتخطيط واشنطن لاستهداف السوداني، ما تكشف خلال عام 2022، إذ أشار بيان وزارة الخزانة الأمريكية خلال فرض عقوبات على خلية لـ”داعش” في جنوب أفريقيا، إلى وجود روابط بين القيادي بـ”داعش” مع هذه الخلية لدعم تمويل التنظيم في جنوب أفريقيا، وأضاف البيان أن “السوداني اعتبر عبد الله حسين أباديجا، داعماً موثوقاً يمكنه مساعدة أنصار داعش بجنوب أفريقيا، لرفع الكفاءة التنظيمية وتجنيد مزيد من الأعضاء”.

2- محاولات “داعش” إعادة بناء القدرات العملياتية: رغم تراجع النشاط العملياتي لتنظيم “داعش” في الصومال خلال الفترة الماضية، حيث لم ينفذ التنظيم خلال شهر يناير الجاري سوى عمليتين فقط، وفقاً لبيان وكالة “أعماق” الموالية له؛ إلا أنه لا يزال يشكل تحدياً للجيش الصومالي والقوات الأمنية.

وخلال شهر يناير الجاري، أعلنت السلطات الصومالية إحباط هجوم إرهابي لعناصر “داعش” على مقر للشرطة في ولاية “بونتلاند”، واستمرت الاشتباكات بين الطرفين في ظل ملاحقة قوات الأمن لعناصر التنظيم، مما أسفر عن مقتل قائد عمليات “داعش”، ويُدعى أبو البراء الأماني، الذي يحمل الجنسية الأثيوبية.

وربما يرتبط استهداف السوداني بمحاولات تنظيم “داعش” في بونتلاند إعادة بناء القدرات مرة أخرى، بعد التراجع الملحوظ في النشاط العملياتي، في ظل الأدوار التي يقوم بها السوداني التي ربما توفر مزيداً من التمويل لدعم قدرات فرع “داعش”، لاستقطاب عناصر جديدة، سواء من داخل الصومال أو خارجها.

3- الاعتماد على عملية إنزال جوي للقوات الخاصة: يدعم الأهمية الكبيرة لاستهداف السوداني بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، التكتيك المستخدم لتنفيذ العملية، التي اعتمدت على عملية إنزال جوي باستخدام طائرة مروحية، لعناصر من القوات الخاصة الأمريكية، بدلاً من الاعتماد على عملية قصف مباشر لموقع السوداني بطائرة من دون طيار.

وتمنح واشنطن أولوية لاستخدام عمليات الإنزال الجوي لاستهداف قيادات فاعلة ومؤثرة بالتنظيمات الإرهابية، وفقاً لمتابعة عمليات القوات الأمريكية على مستوى الساحة السورية بشكل خاص منذ العام الماضي، إذ لم يعد استخدام هذا التكتيك العملياتي مقتصراً على استهداف زعماء التنظيمات الإرهابية فقط، وإنما امتد لقيادات مؤثرة، في ضوء أولوية اعتقالهم وليس مقتلهم.

وتُشير التقارير الإعلامية الأمريكية إلى أن الغرض من العملية الأمريكية كان اعتقال السوداني، إلا أنه اشتبك ومرافقوه مع القوات الأمريكية، ما أسفر عن مقتلهم، دون تعرض القوات المشاركة في العملية لإصابات، وسط ترجيح بأن القوة الخاصة التي نفذت العملية هي فريق “SEAL 6″، التي شاركت في عمليات حساسة لمكافحة الإرهاب تاريخياً في الصومال، رغم عدم الإفصاح الرسمي عن تفاصيل عملية الاستهداف.

4- الاهتمام الأمريكي بالجهد الاستخباراتي والتخطيط: اتسمت عملية التخطيط لاستهداف السوداني بالتعقيد والحساسية الشديدة، في ضوء ما كشفته تقارير إعلامية أمريكية، نقلاً عن مسئولين في الإدارة الأمريكية، خاصة وأن الولايات المتحدة الأمريكية حصلت عن معلومات حول مكان إقامة السوداني في منطقة جبلية بولاية “بونتلاند” قبل أشهر من عملية الاستهداف، ولكن لم تسارع إلى تنفيذ العملية قبل جمع المعلومات الاستخباراتية اللازمة للتأكد من موقع القيادي بالتنظيم.

وأقدمت القوات الأمريكية المنفذة للهجوم على مكان إقامة السوداني، على التدريب لاستهدافه، مع تشكيل نموذج محاكاة للموقع المستهدف، لتسهيل عملية الاقتحام لمجمع الكهوف الذي كان يتحصن فيه مع مرافقيه، قبل حصول الجيش الأمريكي على إذن من الرئيس الأمريكي جو بايدن لتنفيذ العملية.

وتشير التفاصيل غير الرسمية لعملية استهداف السوداني، إلى حجم الجهد الاستخباراتي والتدريب والتخطيط للعملية، في ضوء أهمية القيادي بالتنظيم بالنسبة لواشنطن.

دلالات رئيسية

تعكس أبعاد عملية استهداف السوداني مركزية هذا القيادي داخل تنظيم “داعش”، بما يطرح دلالات رئيسية، يمكن تناولها على النحو التالي:

1- الاستعداد المسبق لتنفيذ العملية: تخضع عملية استهداف القيادات البارزة داخل التنظيمات الإرهابية لتجهيزات معقدة ومتداخلة، مثل التنسيق وتبادل المعلومات بين بعض الجهات والأجهزة المعنية في الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى التخطيط والتدريب على تنفيذ المهمة، والاستقرار على التكتيك المناسب للاستهداف، وهي عملية تحتاج لفترة زمنية ليست بالقصيرة.

ولكن اللافت أن الإدارة الأمريكية حددت موقع اختباء السوداني قبل أشهر من الاستهداف، ولم تُقدم على تنفيذ عملية الاستهداف، إلا بناءً على “توصية” من وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الأمريكي إلى الرئيس جو بادين.

وربما كان حسمُ توقيت استهداف السوداني، بناءً على توصية القيادات العسكرية، لا يتعلق فقط بانتهاء التخطيط للعملية، بل يمتد لاحتمالات وجود معلومات جديدة ترتبط بالسوداني نفسه، ساعدت في حسم توقيت العملية الأمريكية، مثل احتمالات تغير مكان إقامته، أو عرقلة ترتيبات التنظيم لإعادة بناء القدرات في هذا التوقيت.

2- التركيز على تفكيك شبكات “داعش”: رغم تراجع قدرة تنظيم “داعش” على السيطرة على الأراضي، وتحديداً في نطاق قيادته المركزية بالعراق وسوريا، خلال 2017 و2019 على الترتيب،إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية، سواء بشكل منفرد، أو من خلال التحالف الدولي لمواجهته، تركز على تفكيك شبكاته التي لا يزال بعضها نشطاً بشكل سري عبر الدول التي تشهد نشاطاً لمجموعاته.

وقد شهدت الاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب تحولات خلال العامين الماضيين، وكانت أكثر بروزاً على الساحة السورية، لاستهداف القادة المؤثرين لتفكيك شبكات وخلايا التنظيم، ومواجهة قدرات “داعش” على التكيف مع المتغيرات الميدانية في عدد من البيئات المختلفة، والاعتماد على خلايا لتنفيذ العمليات، في ظل عدم القدرة على بسط السيطرة الميدانية على الأراضي، كما كان الحال في سوريا والعراق منذ عام 2014، بما يدعم استمرار الضغط على الشبكات التي توفر الدعم اللوجيستي والأموال لتلك الخلايا، على نحو قد يؤدي إلى ضعف القدرات العملياتية.

ويدعم هذه الاستراتيجية التوسع في عمليات الإنزال الجوي للقوات الخاصة الأمريكية، بهدف اعتقال تلك القيادات، لاستخلاص معلومات حول شبكات التنظيم، لاستهدافها وتفكيكها. إذ أشارت تقاير إعلامية أمريكية إلى أن القوات المنفذة لاستهداف السوداني، جمعت أجهزة كمبيوتر وهواتف وأقراصاً صلبة، مخبأة في مقر إقامته.

3- انخراط عملياتي أمريكي في الصومال: مع أن القوات الأمريكية التي عادت للصومال العام الماضي، بموجب قرار الرئيس جو بايدن، لم تشارك في مهام قتالية مباشرة لمواجهة التنظيمات الإرهابية، وتحديداً حركة “الشباب”، واقتصر دورها على تقديم الدعم والتدريب للقوات الصومالية؛ إلا أن عملية استهداف السوداني تعكس انخراطاً عملياتياً أمريكياً في الصومال خلال الفترة المقبلة، وإن كان محدوداً.

وتُشير العملية الأمريكية الأخيرة في ولاية “بونتلاند”، إلى احتمالات استمرار هذا النمط من العمليات، الذي يستهدف القيادات البارزة والمؤثرة في التنظيمات الإرهابية، إضافة إلى استمرار عمليات استهداف العناصر الإرهابية باستخدام طائرات من دون طيار، لدعم جهود القوات الصومالية في مكافحة الإرهاب. إذ تكشف تقارير إعلامية أمريكية عن استهداف جوي بطائرات من دون طيار لتجمع لعناصر حركة “الشباب” قبل أيام من استهداف السوداني، في محيط العاصمة الصومالية.

4- مهاجمة مصادر التمويل العابرة للحدود: يتجاوز الدور الذي كان يقوم به السوداني فرع “داعش” بالصومال، وفقاً لتقرير صحيفة “نيويورك تايمز” حول أبعاد عملية استهدافه، إلى قيادة شبكة تمويل عابرة للحدود، بين مجموعات التنظيم في أكثر من دولة، وتمتد خارج القارة الأفريقية، إذ له دور في ربط خلايا التنظيم في جنوب أفريقيا بالصومال، وتوفير تمويل لأفرع “داعش” النشطة بالقارة الأفريقية، واستقطاب عناصر أجنبية للصومال، فيما كشف وزير الدفاع الأمريكي أن السوداني وفر تمويلاً لفرع “داعش” بأفغانستان.

ضربة مؤثرة

وأخيراً، فإن استهداف السوداني يمثل ضربة مؤثرة لتنظيم “داعش” في وقت يسعى لإعادة بناء قدراته على مستوى أكثر من فرع، والبحث عن مصادر تمويل لدعم النشاط العملياتي، واستقطاب عناصر جديدة. كما أن تداعيات العملية الأمريكية لا تتوقف فقط عند استهداف السوداني، وإنما تمتد إلى حجم المعلومات التي حصلت عليها القوات الأمريكية، خلال مداهمة مقر إقامة القيادي في “داعش”، والتي يمكن الاعتماد عليها في كشف شبكات التنظيم السرية العابرة للحدود، من دون الجزم بالانعكاسات المباشرة لمقتل السوداني على وقف التدفقات التمويلية للتنظيم، في ضوء قدرات “داعش” على التكيف.