تتجه كل من بوركينافاسو والنيجر نحو اتخاذ خطوات جديدة سوف تساهم، على ما يبدو، في تصعيد حدة التوتر مع العديد من القوى الإقليمية والدولية، لا سيما بعض الدول الأوروبية وفي مقدمتها فرنسا. إذ أعلنت الدولتان، في 2 ديسمبر الجاري، انسحابهما من جميع هيئات مجموعة دول الساحل الخمس بما في ذلك القوة المشتركة، اعتباراً من 29 نوفمبر الفائت، وذلك “بعد تقييم معمق للمجموعة وعملها”، وهو ما يثير تساؤلات عديدة حول دوافع تلك الخطوة والتداعيات المحتملة التي سوف تفرضها، خاصة أنها جاءت بعد يوم واحد من الاجتماع الذي عقده وزراء خارجية مالي والنيجر وبوركينافاسو، والذي أوصوا خلاله بإنشاء اتحاد كونفيدرالي يمهد إلى وحدة بين الدول الثلاث.
أسباب عديدة
يمكن القول إن ثمة اعتبارات عديدة تفسر توجه حكومتي النيجر وبوركينافاسو إلى إعلان انسحابهما من مجموعة الساحل الخماسية، يتمثل أبرزها في:
1- التوتر المتنامي في العلاقات مع أوروبا: أعلنت النيجر، في 27 نوفمبر الفائت، إلغاء قانون تجريم الهجرة غير الشرعية، وهو ما اعتبره مراقبون بمثابة إطلاق لموجات الهجرة غير الشرعية في اتجاه أوروبا، على نحو يوحي بأن النيجر تسعى إلى ممارسة ضغوط على الاتحاد الأوروبي رداً على العقوبات الأوروبية المفروضة على المجلس العسكري.
فضلاً عن ذلك، كانت مالي قد بررت انسحابها من مجموعة الساحل بارتباط هذه المجموعة بدولة خارج المنطقة تسعى جاهدة إلى عزل مالي، في إشارة إلى فرنسا، وهو السبب نفسه الذي استندت إليه كل من بوركينافاسو والنيجر، حيث أكدتا في بيانهما المشترك أنه “لا يمكن لمجموعة الدول الخمس أن تخدم المصالح الأجنبية على حساب مصالح شعوب الساحل، وأن الدولتين لا يمكنهما قبول أية إملاءات من أي قوة مهما كانت باسم شراكة مضللة وطفولية تتنكر لسيادة شعوبهما”.
2- تصاعد الاستقطاب داخل المجموعة: كان لافتاً أنه في الوقت الذي تصاعدت فيه حدة التوتر بين كل من مالي والنيجر وبوركينافاسو وفرنسا، بشكل دفع الأخيرة إلى سحب قواتها من مالي ثم من النيجر، وإعادة نشر هذه القوات أو جزء منها في تشاد، لا تزال موريتانيا وتشاد تحافظان على علاقات مستقرة مع فرنسا على الرغم من أن موريتانيا أبدت موقفاً محايداً من التطورات في المنطقة، غير أن تشاد تبدو حريصة على مواصلة تعزيز العلاقات مع فرنسا، وهو ما يكشف عن حالة الانقسام السياسي بين دول المجموعة تجاه العلاقات مع فرنسا، على نحو ربما دفع النيجر وبوركينافاسو إلى إعلان انسحابهما وتنسيق سياستهما الدفاعية والعسكرية مع مالي.
3- الرهان على الدعم العسكري الروسي: وقد اتضح ذلك بدرجة كبيرة من خلال تزايد انخراط مجموعة “فاجنر” الروسية في الحرب الدائرة بين الجيش المالي والجماعات المسلحة الأزوادية في شمال مالي، حيث نجح الجيش المالي لأول مرة في السيطرة على مدينة كيدال معقل الطوارق والجماعات المسلحة التي تطالب بانفصال شمال مالي. ويعزو بعض المراقبين هذا الانتصار للجيش في السيطرة على كيدال إلى الدعم العسكري الذي قدمته مجموعة “فاجنر” في العمليات القتالية.
انعكاسات مختلفة
من المتوقّع أن يكون لانسحاب النيجر وبوركينافاسو تداعيات عديدة على مستقبل المجموعة واتجاهات العلاقات بين أعضائها، وذلك على النحو التالي:
1- تزايد احتمالات تفكك التحالف: يشير مراقبون إلى أن قرار الدولتين بالانسحاب من المجموعة هو بمثابة نهاية طبيعية لهذا التحالف الأمني، وخاصة بعد انسحاب القوات الفرنسية من مالي ثم النيجر، حيث كانت فرنسا هي الراعي الرسمي لهذا التحالف. لذلك من غير المتوقع استمرار هذا التحالف بدون فرنسا، خاصة مع استمرار التوتر بين الدول الثلاث والأخيرة، إضافة إلى غياب التنسيق بين الدول الخمس أعضاء المجموعة في ظل الخلاف الواضح إزاء الموقف من العلاقات مع فرنسا، حيث اتجهت الدول الثلاث إلى تعزيز العلاقات مع روسيا، بينما سعت تشاد إلى الحفاظ على علاقاتها مع فرنسا، وحرصت موريتانيا على تبني موقف محايد.
2- الإعلان عن ترتيبات أمنية جديدة: لا يمكن استبعاد أن تتجه الدول الثلاث إلى الإعلان عن ترتيبات عسكرية لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل، حيث أعربت النيجر وبوركينافاسو عن حرصهما على تحقيق السلام والتعاون مع باقي الدول، وأكدتا أنهما بالرغم من انسحابهما من المجموعة إلا أنهما ملتزمتان التزاماً عميقاً بتحقيق السلام الدائم في منطقة الساحل، وتظلان مقتنعتين بالحاجة إلى التزام موحد بمكافحة الإرهاب والجريمة العابرة للحدود، وكذا من أجل التنمية. لكن لا يبدو من المرجح اتجاه الدولتين إلى صياغة ترتيبات أمنية مع تشاد أو موريتانيا في ظل علاقاتهما مع فرنسا.
3- فرض مزيد من العقوبات الأوروبية: يأتي إعلان النيجر وبوركينافاسو الانسحاب من مجموعة الساحل الخماسية كخطوة تصعيدية ضد فرنسا والدول الأوروبية بشكل عام، وخاصة بعد أن فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على النيجر، ومن ثم من المتوقع أن تشهد العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والدول الثلاث مزيداً من التوتر، الأمر الذي قد يدفع الاتحاد الأوروبي إلى فرض عقوبات جديدة. ولا يُستبعد أن تتجه الدول الثلاث إلى اتخاذ إجراءات أكثر تشدداً قد تطال المصالح الاقتصادية ونشاط الشركات الأوروبية على سبيل المثال.
تنسيق مستمر
خلاصة القول، يعكس قرار النيجر وبوركينافاسو بالانسحاب من مجموعة الساحل الخماسية، عزم الدولتين على قطع روابطهما العسكرية والأمنية مع فرنسا وتنسيق سياستيهما مع مالي، بينما تتجه الدول الثلاث (مالي، والنيجر، وبوركينافاسو) إلى تعزيز علاقاتها مع روسيا. ويبدو أن مستقبل مجموعة الساحل الخماسية أصبح غامضاً، ولا سيما بعد انسحاب الدول الثلاث، حيث لم يتبقَّ سوى تشاد وموريتانيا التي تميل إلى الاستمرار في علاقاتها مع فرنسا، وهو الأمر الذي ربما يدفع الدول الثلاث إلى ترتيبات أمنية مشتركة على غرار تشكيل فرق عسكرية لمكافحة الإرهاب، أو الاتجاه إلى تحويل الاتفاق الذي توصل إليه وزراء خارجية تلك الدول بتأسيس اتحاد كونفيدرالي إلى خطوات إجرائية على الأرض، على نحو يوحي في النهاية بأن منطقة الساحل تبدو مقبلة على مرحلة جديدة سوف تعاد فيها صياغة أنماط التفاعلات التي تجري بين دولها والقوى المعنية بأزماتها.