تحييد الآثار:
دوافع الوساطة العربية في الأزمة الأوكرانية

تحييد الآثار:

دوافع الوساطة العربية في الأزمة الأوكرانية



بدأت جامعة الدول العربية، فضلاً عن كلٍّ من مصر والسودان والعراق والجزائر والأردن، جهوداً للوصول إلى تسوية للأزمة الأوكرانية، على نحو انعكس في الزيارة التي قام بها وفد يضم الأمين العام للجامعة العربية ووزراء خارجية الدول الخمس، إلى روسيا وبولندا، يومي 4 و5 أبريل الجاري، لإجراء مباحثات حول الأزمة مع وزيري الخارجية الروسي سيرجي لافروف والأوكراني ديمتري كوليبا. وتأتي زيارة الوفد العربي إلى موسكو ووارسو بعد أقل من شهر على تشكيل جامعة الدول العربية مجموعة الاتصال العربية على المستوى الوزاري خلال الدورة الـ١٥٧ لمجلس الجامعة على مستوى وزراء الخارجية العرب التي انعقدت بالقاهرة في ٩ مارس الفائت بهدف إجراء مشاورات مع الأطراف المعنية بالأزمة الأوكرانية لإيجاد حل دبلوماسي لها.

اعتبارات عديدة

يُمكن القول إن ثمة اعتبارات عديدة دفعت الجامعة والدول العربية إلى الانخراط في الجهود التي تُبذل من أجل التوصل إلى تسوية دبلوماسية للأزمة الأوكرانية، يتمثل أبرزها في:

١- التداعيات الاقتصادية للتدخل الروسي: كان للعمليات العسكرية الروسية ضد أوكرانيا تأثيرات سلبية على اقتصاديات العديد من الدول العربية. وقد حدد الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، بعد محادثات مع وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، الآثار السلبية للأزمة الأوكرانية على اقتصاديات الدول العربية؛ إذ أشار إلى أن العديد من الدول العربية تواجه انقطاع إمدادات القمح بسبب الحرب، حيث تعد روسيا وأوكرانيا مصدرين رئيسيين للقمح إلى دول المنطقة، ويعتمد بعضها بنسبة كبيرة قد تصل إلى ٨٥٪ على الدولتين لتوفير احتياجاتها من القمح. وقد أدى اختلال صادرات الدولتين من القمح، فضلاً عن تزايد تأثير العقوبات الغربية المفروضة على موسكو التي أسفرت عن ارتفاع شديد في أسعار القمح عالمياً، إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية التي تواجه بعض تلك الدول، ولا سيما في ظل عدم تعافي كثير من اقتصاديات هذه الدول بعد من آثار جائحة كوفيد-١٩. فضلاً عن ذلك، فإن ارتفاع أسعار الطاقة أثر بالسلب على الخطط الاقتصادية للحكومات العربية، فمع تخطي سعر برميل النفط ١٠٠ دولار اضطرت بعض الدول إلى زيادة أسعار المحروقات، وفي دولة مثل تونس تمت الزيادة مرتين في مطلع شهري فبراير ومارس الماضيين، في محاولة لكبح العجز الكبير في موازنة البلاد.

٢- انعكاس الحرب على الخيارات المتاحة: سعت العديد من الدول العربية خلال العقد الماضي إلى تأسيس علاقات اقتصادية وعسكرية مع روسيا، بجانب علاقاتها وشراكاتها القوية والتقليدية مع الولايات المتحدة الأمريكية. وقد اكتسب هذا التوجه مزيداً من الأهمية في ضوء عاملين: أولهما، السياسة التي تبنتها الإدارات الأمريكية الديمقراطية والجمهورية المتعاقبة للانسحاب من المنطقة في إطار انتقال اهتمامها نحو آسيا، على نحو انعكس في عملية الانسحاب من أفغانستان في أغسطس الماضي. وثانيهما، انخراط روسيا في العديد من الملفات والأزمات التي تؤثر على الأمن القومي للدول العربية مثل الملفين السوري والليبي. ومن هنا، فإن استمرار الأزمة الأوكرانية وفرض الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين عقوبات قوية على موسكو وعزلها دولياً، فضلاً عن الضغوط التي تمارسها إدارة الرئيس جو بايدن على بعض الحلفاء في المنطقة للالتزام بتلك العقوبات؛ كل ذلك سيفرض على الدول العربية تحديات خاصة فيما يتعلق بتعزيز علاقاتها العسكرية مع موسكو.

٣- احتمال تراجع الاهتمام بقضايا المنطقة: ربما يدفع استمرار الحرب، وما ترتبه من أزمة إنسانية، القوى الدولية إلى تقليص اهتمامها وانخراطها في الأزمات الأمنية والسياسية والحروب الأهلية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، وما تفرضه من تحديات للأمن القومي لدول المنطقة، وكذلك للأمن والاستقرار الإقليمي. ولهذا، حث الأمين العام للجامعة أحمد أبو الغيط، خلال كلمته بجلسة مجلس الأمن الدولي في ٢٣ مارس الفائت، القوى الدولية على التوصل إلى حلول وتسويات تحقق مصالح جميع الأطراف، حتى لا تؤثر الأزمة الأوكرانية على دور الأمم المتحدة في معالجة القضايا والأزمات الأخرى، وخاصة في المنطقة العربية، ولا سيما الأزمة الإنسانية في العديد من دولها، حيث سيؤدي تزايد أعداد اللاجئين الأوكرانيين إلى تزايد المخاوف العربية من وقف المساعدات الإنسانية الدولية لمعالجة الأزمات الإنسانية المحتدمة في بعض تلك الدول، التي تعتمد في توفير احتياجات عدد كبير من مواطنيها على المساعدات الإنسانية الدولية.

٤- ارتدادات الصراع على الملفات الإقليمية: لا يمكن فصل اهتمام الجامعة والدول العربية بالانخراط في جهود تسوية الأزمة الأوكرانية عن قلق ينتاب العديد من تلك الدول إزاء احتمال قيام روسيا بنقل التصعيد العسكري من أوكرانيا- في ظل تصاعد حدة العقوبات الغربية المفروضة عليها والجهود الأمريكية والأوروبية لعزلها دولياً- إلى منطقة الشرق الأوسط، ولا سيما في الملف والأزمات التي لها وجود عسكري مباشر فيها كما في سوريا وغير مباشر مثل ليبيا من خلال مليشيا “فاجنر” المرتبطة بها. وثمة توقعات تشير إلى أن موسكو قد تعمل على تقويض فرص التوصل إلى تسويات سياسية في دول الأزمات، ومحاولة معالجة الانقسامات بين القوى السياسية كما هو الحال في ليبيا، وسيؤدي غياب التنسيق الأمريكي-الروسي في تسوية صراعات المنطقة إلى تفاقمها، بشكل سوف يساهم في زعزعة الاستقرار والأمن الإقليمي.

٥- تأسيس علاقات مع طرفي الأزمة: حرصت الدول العربية المنخرطة في جهود الوساطة العربية على تأسيس علاقات قوية مع طرفي الأزمة (روسيا وأوكرانيا)، وكذلك مع القوى الدولية ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الأوروبية الرئيسية المنخرطة فيها، على نحو قد يوفر لها فرصة من أجل التوصل إلى تهدئة ووقف إطلاق النار في أوكرانيا خلال المرحلة القادمة. وربما يرتبط ذلك بحرص الجامعة والدول العربية على متابعة ملف الجاليات العربية الموجودة في أوكرانيا.

٦- تزايد خطر الإرهابيين العائدين: شجعت روسيا على انخراط المقاتلين الأجانب بالمنطقة في العمليات العسكرية التي تقودها ضد أوكرانيا التي دعت بدورها المقاتلين الأجانب للانخراط في الصراع إلى جانبها. وقد أشارت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، في ٣١ مارس الفائت، إلى وصول دفعة أولى من المقاتلين السوريين المرتزقة إلى روسيا لتلقي التدريب العسكري قبل التوجه إلى أوكرانيا للمشاركة في العمليات العسكرية الروسية. وتكشف التقديرات أن الأراضي الأوكرانية تُعد ساحة جاذبة للتنظيمات الإرهابية التي كانت ناشطة في المنطقة. وهنا، فإن ثمة مخاوف من أن يعود هؤلاء المقاتلون مجدداً إلى دول الصراعات في المنطقة، على نحو سوف يؤدي إلى تهديد أمن واستقرار المنطقة، كما حدث مع عودة الجهاديين الذين قاتلوا في أفغانستان في ثمانينيات القرن المنصرم، لتنفيذ عمليات إرهابية في العديد من الدول العربية.

متغيرات رئيسية

في النهاية، يمكن القول إن ثمة متغيرات عديدة سوف يكون لها دور في تقييم حدود تأثير الجهود العربية للوساطة بين روسيا وأوكرانيا من أجل التوصل إلى حل دبلوماسي للأزمة الأوكرانية التي أخذت منحى تصاعدياً مع بداية العمليات العسكرية الروسية في ٢٤ فبراير الماضي، منها تعدد القوى الدولية والإقليمية التي تمارس أدواراً مشابهة وتؤسس علاقات متوازية مع طرفي الأزمة وتسعى إلى إبرام تسوية تستوعب مصالحها وحساباتها، إلى جانب تراكم الأزمات والصراعات العربية التي لم تنتهِ إلى تسوية سياسية حتى الآن رغم مرور أكثر من عشر سنوات على اندلاعها.