تصعيد متجدد:
دوافع الهجمات المتبادلة بين واشنطن ووكلاء طهران بسوريا

تصعيد متجدد:

دوافع الهجمات المتبادلة بين واشنطن ووكلاء طهران بسوريا



في ردٍ على هجوم بطائرة من دون طيار من قبل وكلاء إيران على قاعدة عسكرية أمريكية في شمال شرق سوريا بالقرب من الحسكة، في ٢٣ مارس الجاري، أسفر عن مقتل متقاعد أمريكي وإصابة ستة آخرين من بينهم خمسة من أفراد الخدمة الأمريكية، أمر الرئيس الأمريكي جو بايدن، استناداً إلى مسئوليته بحماية مواطني الولايات المتحدة الأمريكية في الداخل والخارج وتعزيز الأمن القومي الأمريكي، بشن غارات جوية على منشآت في سوريا تستخدمها المليشيات التابعة للحرس الثوري الإيراني.

وقد ذكر المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) الجنرال بات رايدر أنه تم تنفيذ ضربتين عبر مقاتلة أمريكية من طراز “إف-١٥ إي” استهدفت منشأتين تابعتين للحرس الثوري الإيراني بالقرب من دير الزور شرق سوريا تضم مستودع ذخيرة، ومبنى مراقبة، وموقعاً لجمع المعلومات الاستخباراتية. وسبق أن أمر بايدن خلال العامين الماضيين وزارة الدفاع الأمريكية بشن غارات جوية استهدفت وكلاء إيران في سوريا في فبراير ويونيو ٢٠٢١، وأغسطس 2022.

يأتي تجدد استهداف وكلاء إيران للقوات الأمريكية في سوريا، والتي يقدر عددها بحوالي ٩٠٠ جندي أمريكي، ومئات المتعاقدين الآخرين الذي يعملون مع المقاتلين الأكراد للتأكد من عدم عودة تنظيم “داعش” بعد هزيمته في الباغوز، بعد زيارة مفاجئة لرئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية الجنرال مارك ميلي، في ٤ مارس الجاري، إلى قاعدة في شمال شرق سوريا، للقاء القوات الأمريكية هناك ومراجعة إجراءات حمايتها من هجمات عسكرية مستقبلية، بعد تعرضها لعديد من تلك الهجمات خلال الأشهر الماضية من قبل المليشيات الموالية لإيران.

رسائل متعددة

يكشف هذا التصعيد المتبادل عن جملة من الرسائل التي يتمثل أبرزها فيما يلي:

1- تزايد الضغوط على الوجود الأمريكي في سوريا: تكشف الهجمات الأخيرة ضد القواعد العسكرية الأمريكية في سوريا أن الوجود العسكري الأمريكي في البلاد مُعرَّض للخطر، مع توقعات بأنها لن تكون الأخيرة، حيث تعرَّض الجنود الأمريكيون خلال السنوات السبع الماضية، منذ وصولهم لسوريا، للعديد من الهجمات التي يشنها وكلاء إيران بصورة منتظمة. فبحسب برنامج تتبع القذائف الإيرانية (الصواريخ، وقذائف الهاون، والطائرات من دون طيار) التابع للمعهد اليهودي للأمن القومي الأمريكي، استهدفت المليشيات المدعومة من إيران أفراد الخدمة الأمريكية في سوريا بما لا يقل عن ٧٢ مرة منذ عام ٢٠١٧، وهذا العدد لا يشمل هجمات الأسبوع الماضي. وقد وقع أكثر من ٩٠% منها خلال العامين الماضيين. في حين أشار قائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال إريك كوريلا، في ٢٣ مارس الجاري، إلى أن وكلاء إيران نفذوا هجمات بطائرات من دون طيار أو هجمات صاروخية ضد القوات الأمريكية في الشرق الأوسط ٧٨ مرة منذ بداية عام ٢٠٢١، بمعدل هجوم واحد تقريباً كل ١٠ أيام.

واللافت في هذا السياق أن الوجود العسكري الأمريكي في سوريا لا يتعرض فقط لتهديدات من جانب وكلاء إيران، وإنما يواجه أيضاً مضايقات من قبل القوات الروسية، حيث أخبر الجنرال كوريلا لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، في ١٦ مارس الجاري، بأن القوات الجوية الروسية تُحلق بشكل متزايد فوق مواقع القوات الأمريكية بطريقة “استفزازية”. وقد كشف قائد القوات الجوية في القيادة المركزية الأمريكية الجنرال أليكسوس جرينكويتش أن مقاتلات روسية تحمل ذخائر حلقت فوق قاعدة عسكرية أمريكية في سوريا كل يوم تقريباً خلال شهر مارس الجاري منتهكة اتفاقاً بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا لتجنب المواجهات العرضية، أو أي تحركات استفزازية.

2- استثناء سوريا من قرار إنهاء الحروب الأمريكية اللا نهائية: منذ اليوم الأول له في البيت الأبيض والرئيس الأمريكي جو بايدن يسعى لإنهاء الحروب الأمريكية اللا نهائية في منطقة الشرق الأوسط. وبالفعل، أمر بانسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، في ٣١ أغسطس ٢٠٢١، قبل حلول الذكرى العشرين لأحداث الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية رغم معارضة العديد من المسئولين العسكريين بالإدارة الأمريكية. كما دعم التوصل لاتفاق مع الحكومة العراقية لقصر مهام القوات الأمريكية في العراق، والتي يصل عددها إلى ٢٥٠٠ جندي، على تقديم الاستشارات والتدريب والدعم اللوجيستي للقوات العراقية لمحاربة التنظيمات الإرهابية. ولكن تلك السياسة لم تمتد لسوريا، حيث لا تزال الولايات المتحدة الأمريكية ملتزمة بمحاربة تنظيم “داعش”، والضغط على نظام الرئيس السوري بشار الأسد الخاضع لعقوبات قوية من جانبها.

3- شن غارات دفاعاً عن الأمريكيين في الخارج: تكشف الهجمات الأمريكية الأخيرة في سوريا، وتلك التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية خلال العامين الماضيين، أن الرئيس بايدن لا يأمر بتوجيه ضربات عسكرية ضد وكلاء إيران في سوريا إلا في حال أسفرت هجماتهم المسلحة على القواعد العسكرية الأمريكية عن مقتل أمريكي. فقد أكد الرئيس الأمريكي في خطابه لمجلسي الشيوخ والنواب، في ٢٥ مارس الجاري، في أعقاب أمره البنتاجون بشن غارة جوية ضد منشآت تابعة للحرس الثوري الإيراني في سوريا، ومسئولو الإدارة، أن الضربات العسكرية الأمريكية الدقيقة الأخيرة تهدف لحماية الموظفين الأمريكيين، وإضعاف وتعطيل الهجمات المستمرة ضد الولايات المتحدة الأمريكية وشركائها في الشرق الأوسط، وردع إيران والمليشيات التي تدعمها من شن أو دعم المزيد من الهجمات على أفراد ومنشآت أمريكية في المنطقة.

4- استغلال ضعف قدرات الدفاع الأمريكية: قال مسئولان أمريكيان إن نظام الدفاع الجوي الرئيسي في القاعدة التي تعرضت للاستهداف مؤخراً من قبل وكلاء إيران لم يكن يعمل بكامل طاقته وقت شن هجمات عسكرية متعددة عليها، مما يثير التساؤلات حول ما إذا كان المهاجمون قد اكتشفوا هذا الضعف واستغلوه، أو حدث فقط إرسال الطائرة من دون طيار في وقت كان فيه هناك تعطل في نظام الدفاع بالصدفة، بينما قال مسئول أمريكي آخر إن نظام الدفاع الصاروخي في القاعدة ربما كان يعاني من مشكلة صيانة وفقاً لتقرير لصحيفة “نيويورك تايمز” في ٢٤ مارس الجاري.

5- انقسام حول استمرار الوجود العسكري في سوريا: بينما يدعو عدد من المشرعين الأمريكيين الإدارة الأمريكية لسحب القوات الأمريكية من سوريا في أعقاب تعدد الهجمات التي يشنها وكلاء إيران على القواعد العسكرية الأمريكية، وفي ظل تراجع تهديدات تنظيم “داعش” في سوريا؛ فإن مشرعين آخرين ما زالوا حريصين على دعوة الرئيس بايدن للحفاظ على الوجود العسكري الأمريكي في سوريا؛ لأن الانسحاب من البلاد من شأنه أن يهدد الأمريكيين من خلال السماح للتنظيمات الإرهابية ووكلاء إيران بتعزيز نفوذهم بسوريا. ولذلك، رفض مجلس النواب مشروع قانون قدمه النائب الجمهوري مات جايتز بسحب القوات الأمريكية من سوريا. ويستند أنصار عدم سحب القوات الأمريكية من سوريا إلى تداعيات عملية الانسحاب الأمريكي في أفغانستان والتي أدت لاستعادة حركة “طالبان” الاستيلاء على الحكم بعد عقدين من حرب أمريكية مكلفة مالياً وبشرياً، وإنهاء النجاحات التي حققتها الولايات المتحدة الأمريكية خلال السنوات الماضية بأفغانستان.

فاعلية محدودة

يكشف تكرار الهجمات العسكرية التي يشنها وكلاء إيران ضد القواعد العسكرية الأمريكية، رغم الغارات الجوية الأمريكية الانتقامية السابقة ضدهم، عن أنها غير كافية لردع إيران أو وكلائها عن تحدي الوجود العسكري الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط. ففي رد على الهجمات العسكرية الأخيرة ضد منشآت تابعة للحرس الثوري الإيراني في سوريا، شنت المليشيات المدعومة من طهران في اليوم التالي وابلاً من الهجمات ضد قاعدة عسكرية أمريكية في شمال شرق سوريا. ومن المرجح أن تثير الهجمات العسكرية الأمريكية على وكلاء إيران في سوريا التوترات مع إيران، التي يصفها مسئولو إدارة بايدن بأكبر تهديد أمني في الشرق الأوسط، حيث قال كوريلا في شهادته أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب، في ٢٣ مارس الجاري، إن وكلائها يعملون على نشر عدم الاستقرار في جميع أنحاء المنطقة، وتهديد شركاء الولايات المتحدة الأمريكية، رغم تأكيد بايدن في مؤتمر صحفي بكندا، في ٢٥ من الشهر نفسه، أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تسعى إلى صراع مع إيران، ولكن تهدف إلى توجيه رسالة لطهران بأن الإدارة الأمريكية لن تتهاون مع العمليات المسلحة التي تقتل مواطنين أمريكيين، وأنها ستأخذها على محمل الجد، وسترد بسرعة وحسم إذا ما تم تهديد المواطنين الأمريكيين في الشرق الأوسط من قبل وكلائها.