بعد فترة طويلة من التنسيق المشترك، تجددت الهجمات العسكرية الروسية على مناطق العمليات التركية في سوريا، حيث نفذت مقاتلات روسية، في 16 أكتوبر الجاري، سلسلة غارات جوية بالصواريخ، استهدفت محيط مدينتي عفرين وأعزاز ومقراً عسكرياً تابعاً لفصائل المعارضة الموالية لتركيا شمال غربي حلب. وربما يشير ذلك إلى تغير في الحسابات الروسية إزاء الدور الذي تقوم به تركيا على الساحة السورية، حيث يبدو أن هذه الخطوة تعكس رغبة موسكو في توجيه رسالة إلى أنقرة مفادها أنها لن تسمح لها بتوظيف انشغالها بإدارة العمليات العسكرية في أوكرانيا لفرض أجندتها على الساحة السورية.
توقيت لافت
جاءت هذه الهجمات – التي تعتبر الأعنف خلال الشهر الجاري – على مناطق في ريف حلب الشمالي الذي يخضع لسيطرة الفصائل المسلحة الموالية لتركيا، في توقيت لافت، حيث أعقبت الصدام العسكري الذي اندلع بين “هيئة تحرير الشام” و”الفيلق الثالث”، على نحو يعني أن هذه الهجمات لا تنفصل عن محاولات موسكو وضع حدٍّ لمساعي الفصائل الموالية لتركيا لإجراء تغييرات ميدانية على الأرض سوف يكون لها، في رؤية موسكو، تأثير مباشر على توازنات القوى في المنطقة، وبما قد لا يتوافق مع المصالح الروسية على الأقل في المرحلة الحالية.
كما توازت الهجمات مع تزايد حدة الانتقادات التي توجهها أنقرة للسياسة التي تتبناها موسكو في التعامل مع التطورات الميدانية التي طرأت على صعيد الحرب في أوكرانيا، خاصة بعد القرار الذي اتخذته أنقرة بدعم قرار في الجمعية العامة للأمم المتحدة يدين الضم الروسي لأراضي في أوكرانيا، في 11 أكتوبر الجاري، فضلاً عن التصريحات التي أدلى بها المندوب التركي في الأمم المتحدة، فريدون سينيرلي أوغلو، مطلع الشهر الجاري، والتي قال فيها إن بلاده “تعتبر العمليات العسكرية التي شنتها روسيا ضد مدن أوكرانية في الفترة الأخيرة مقلقة للغاية وغير مقبولة”.
هذا التباين في المواقف بين موسكو وأنقرة يُشير إلى السياسة المزدوجة التي تتبناها الدولتان وتديران من خلالها اتجاهات العلاقات فيما بينهما، حيث إن هذا التباين لم يمنع، على سبيل المثال، الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين، في 13 أكتوبر الجاري، من اقتراح تحويل تركيا إلى مركز رئيسي دولي لتصدير الغاز.
دلالات رئيسية
يطرح التصعيد العسكري الروسي في مناطق العمليات التركية في سوريا عدداً من الدلالات المرتبطة بتطورات المشهد السوري من جهة، وواقع العلاقات الروسية-التركية من جهة أخرى، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1- تأكيد فشل أنقرة في ضبط تحركات التنظيمات المسلحة: يمكن القول إن روسيا سعت عبر هذا التصعيد إلى إلقاء الضوء على الاشتباكات المسلحة التي ما زالت مستمرة بين الفصائل المسلحة الموالية لتركيا، ولا سيما “هيئة تحرير الشام” و”الفيلق الثالث”، على نحو تحاول من خلاله الإشارة إلى تراجع قدرة تركيا على ضبط تحركات تلك الفصائل، خاصة بعد انهيار الهدنة التي تم التوصل إليها في الفترة الماضية. وربما يدفع ذلك موسكو إلى شن مزيدٍ من العمليات العسكرية في تلك المناطق، ولا سيما في حالة ما إذا حاولت “هيئة تحرير الشام” التمدد في عفرين والسيطرة على بعض المناطق الأخرى.
2- الردّ على التحركات التركية المناوئة للمصالح الروسية: لا يمكن فصل الهجمات الروسية في مناطق العمليات التركية في ريف حلب عن بعض الخطوات التي أقدمت عليها تركيا، والتي اعتبرت روسيا أنها لا تتوافق مع مصالحها، ولا سيما فيما يتعلق بالاتفاق الذي توصلت إليه تركيا وأذربيجان، في 6 أكتوبر الجاري، والذي قضى برفع سعة خط “تاناب” لنقل الغاز الأذربيجاني إلى أوروبا عبر الأناضول، من 16 مليار متر مكعب إلى 32 مليار متر مكعب، وذلك خلال عقد النسخة الثانية من منتدى الطاقة التركي-الأذربيجاني الذي يهدف إلى رفع مستوى التعاون الثنائي بين الطرفين، على نحو يمكن أن يفرض تداعيات مباشرة على الخيارات المتاحة أمام روسيا لإدارة الصراع مع الدول الغربية التي اتّجهت إلى توسيع نطاق العقوبات التي تفرضها على روسيا بسبب الحرب التي تشنها على أوكرانيا.
3- إثبات القدرة على تغيير التوازنات الاستراتيجية: جاءت الهجمات الأخيرة التي شنتها روسيا عقب تزايد التهديدات التي تُوجّهها تركيا بإمكانية إطلاق عملية عسكرية جديدة في شمال سوريا، لوضع حد للأنشطة العسكرية التي تقوم بها مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” الكردية (قسد)، وهي العملية التي سبق أن وجهت القوى الدولية المعنية بالتطورات الميدانية في سوريا، بما فيها روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، تحذيرات مباشرة بشأن التداعيات التي يمكن أن تفرضها في النهاية. ومن هنا، فإن هذه الهجمات ربما تكون، في قسم منها، محاولة من جانب موسكو لإثبات أنها القوة الأساسية التي تمتلك القدرة على إجراء تغيير في التوازنات الاستراتيجية، أو في الترتيبات السياسية والأمنية التي يتم العمل على إعادة صياغتها خلال المرحلة الحالية.
4- الترويج لإمكانية إدارة صراعين متزامنين: توازت الهجمات الأخيرة في سوريا مع التصعيد العسكري الذي يجري على الساحة الأوكرانية، خاصة بعد تفجير جسر القرم وما أعقبه من شنّ ضربات روسية عديدة بواسطة الطائرات من دون طيار، والتي شملت معظم المناطق الأوكرانية، بما فيها العاصمة كييف، وركزت على منشآت الطاقة، وهو ما يوحي بأن روسيا حرصت، في الغالب، على تأكيد أنها تمتلك الإمكانيات التي يمكن أن تساعدها في إدارة صراعين متزامنين، رغم كل الضغوط التي تتعرض لها بسبب انخراطها في هذين الصراعين.
رسائل مباشرة
في ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن روسيا سعت عبر هذا التصعيد العسكري في مناطق العمليات التركية في سوريا إلى تأكيد أنها ما زالت تمنح أهمية خاصة لضبط الترتيبات الأمنية التي يجري العمل على صياغتها في سوريا خلال المرحلة القادمة، وأن انشغالها بإدارة العمليات العسكرية في أوكرانيا لن يقلص من قدرتها على تكريس نفوذها داخل سوريا، على نحو لا يمكن معه استبعاد إمكانية اتجاهها إلى شن مزيد من تلك العمليات العسكرية خلال المرحلة القادمة، حتى لو أدى ذلك إلى التأثير على العلاقات القوية التي تؤسسها مع تركيا في الفترة الحالية.