ملفّات متشابكة:
دوافع المبادرة الأردنية لإرساء الأمن في الجنوب السوري

ملفّات متشابكة:

دوافع المبادرة الأردنية لإرساء الأمن في الجنوب السوري



تُشكل مبادرة الأردن الجديدة لحل الأزمة السورية عموماً، وإرساء الأمن والاستقرار في الجنوب السوري بوجه خاص، والتي يُطلق عليها مبادرة “خطوة مقابل خطوة”، محاولة لاختراق جدار الأزمة، بعد انسداد أفق الحل نتيجة تباعد موقف الفاعلين الداخليين والخارجيين، والتعقيدات التي تُحيط بالملف السوري، بل وفشل حل الأزمة عبر محطات جنيف وأستانة وفيينا وسوتشي، وقبلها مؤتمرات “أصدقاء سورية”. ولعل هذه المبادرة تُثير التساؤل حول دوافعها، وأسباب طرحها في هذا التوقيت، والتي تتمثل في التأكيد على مكانة الأردن كلاعب إقليمي في المنطقة، والتأثير السلبي للجماعات المسلحة على الأمن الوطني الأردني، وتأسيس عمق استراتيجي عربي في جنوب سوريا، والقيام بمشاريع اقتصادية ذات طبيعة استراتيجية مع سوريا، وتخفيف الضغوط الناتجة عن اللاجئين السوريين بالأردن.

بالتزامن مع الحديث عن توجه عربي لإعادة سوريا إلى محيطها العربي والإقليمي، بعد 12 عاماً من العزلة، أعاد الأردن طرح مبادرته للحل السياسي في سوريا، مدفوعاً بالمتغيرات الإقليمية والدولية، سواء من جهة إعادة روسيا ترتيب أولوياتها باتجاه أوكرانيا، ومصالحها في تهدئة الجبهات الأخرى المنخرطة فيها، أو من جهة الانفتاح العربي والتركي على دمشق، وتحديداً في إطار الاستجابة الإنسانية لكارثة الزلزال المدمر، الذي ضرب سوريا وتركيا، في فبراير الماضي، أو من جهة إمكانية تقديم إيران تنازلات بعد الإعلان عن استئنافها العلاقات مع السعودية، ونتيجة للضغوط المحلية والخارجية المفروضة عليها.

أهداف رئيسية

اللافت أن وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، كان قد أجرى مباحثات حول المبادرة الأردنية لتسوية الأزمة السورية، مع نظيره البريطاني جيمس كليفيرلي، منذ أقل من شهر واحد، في 25 فبراير الماضي، وأن هذه المباحثات كانت قد جاءت بعد 11 يوماً فقط من زيارة أجراها الصفدي إلى سوريا، والتي كانت الزيارة الأولى للوزير الأردني إلى دمشق منذ بداية الأزمة، وأعلن حينها عقب لقائه بالرئيس السوري بشار الأسد أن “الزيارة محطة للتوصل إلى حل للأزمة السورية”.

وكما يبدو، من الإصرار الأردني على طرح المبادرة، وإعادة طرحها من جديد، أن عدداً من الأهداف يستند إليها الأردن في طرح المبادرة، أهمها ما يلي:

1- التأكيد على مكانة الأردن كلاعب إقليمي في المنطقة: كان وزير الخارجية الأردني قد كشف عن مبادرة عربية بقيادة أردنية لحل الأزمة السورية، وذلك في لقاء صحفي أجراه مع صحيفة “ناشيونال” البريطانية، في 28 سبتمبر 2022، على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في الدورة 77، مؤكداً أن بلاده تحشد لدعم دولي وإقليمي لعملية سياسية لإنهاء الأزمة المستمرة منذ 11 عاماً في سوريا، وموضحاً أنه تم التوافق عليها بشكل مبدئي، ولا سيما مع السعودية، إلى جانب مصر والكويت والبحرين، وفرنسا على الصعيد الدولي.

وكما يبدو من حديث الصفدي، فإن الأردن يحاول التأكيد على مكانته كـ”لاعب إقليمي” في المنطقة، عبر انخراط عمان بجهد كبير لطرح المبادرة بجدية لدى المجتمع الدولي، وذلك عبر قراءة فاحصة للموقفين الأمريكي والروسي بخصوص الأزمة، ومحاولة الأردن المساهمة سياسياً لحلها.

فمن جانب، وبسبب انشغالها بالحرب في أوكرانيا، وتركيزها الاستراتيجي على التواجد في المحيط الهادئ لمواجهة التوسع الصيني المتنامي، فقد فوضت الولايات المتحدة الأمريكية دول الشرق الأوسط بتقديم الحلول والتسويات للأزمات والصراعات الإقليمية، وهي السياسة التي أطلقت عليها “فورين بوليسي” تعبير “الاستقرار المفوض”، ومنه يمكن فهم طبيعة الموقف الأمريكي المُتفهم لمختلف التحركات الأردنية على المستوى الإقليمي. ومن جانب آخر، تُدرك روسيا ما يمتلكه الأردن في حسابات العلاقات الدولية، من قدرة واضحة، مقارنة مع دول أخرى، على طرح مبادرة وحشد الدعم اللازم لها من القوى الإقليمية بحيث تصب في صالحها، لذلك تُعير موسكو اهتماماً كبيراً للمبادرة الأردنية.

2- التأثير السلبي للجماعات المسلحة على الأردن: تُعد المعادلة في الجنوب السوري على درجة عالية من التشابك والتعقيد، حيث يضم مناطق القنيطرة ودرعا والسويداء، ولكل منها خصوصيتها. إلا أنه، بعد عام 2015، عندما دخلت موسكو على خط الأزمة السورية، فقد أصبح جنوب سوريا موضع بحث وتفاهمات على الطاولة الإقليمية والدولية، نظراً لحساسيته من الناحية الجيوسياسية والأمنية لكل من الأردن وإسرائيل، ولما له من تأثيرات على أمن الدول في الإقليم، فضلاً عن مصالح الولايات المتحدة.

ونظراً لأهمية الجنوب السوري بالنسبة إلى الأردن، فقد سعت عمان للانطلاق من اتفاق “خفض التصعيد”، منذ عام 2017، وتحويله لاتفاق يحمي أمن الأردن ومصالحه على الحدود مع سوريا. إلا أنه ورغم التفاهمات بين الأطراف الإقليمية والدولية بشأن إبعاد الجماعات المسلحة المدعومة من إيران عن الحدود الأردنية والإسرائيلية، فقد تعاظم نفوذ إيران في الجنوب السوري، بعد أن تواجد الحرس الثوري الإيراني والجماعات المسلحة المدعومة منه، مثل حزب الله وغيره؛ بما يعنيه من تأثير سلبي على الأردن، من خلال نشاط جماعات تهريب المخدرات، وانتشار السلاح على الحدود الأردنية السورية.

ومن ثم فقد توصلت عمان إلى نقطتين أساسيتين، هما: عدم قدرة النظام السوري على إيقاف عمليات التهريب نهائياً، إضافة إلى المخاوف من حصول جماعات داخل الأردن على كميات كبيرة من السلاح، عبر استغلال سهولة الحدود مع سوريا.

3- تأسيس عمق استراتيجي عربي في جنوب سوريا: انطلاقاً من التهديد الذي يتخذ أبعاداً أمنية واجتماعية تطال الأردن، إضافة إلى دول الخليج، تبدو الحاجة الأردنية المُلحة لإعادة ضبط المعادلة الأمنية في الجنوب السوري، بشكل يُرسي الأمن على جانبي الحدود، ويُبعد التهديدات المرتبطة بالوجود الإيراني هناك.

والملاحظ أن المبادرة الأردنية توفر الفرصة لتأسيس عمق استراتيجي عربي في جنوب سوريا، عبر محاولات إبعاد الجماعات المسلحة المدعومة من إيران من هناك؛ خاصة أن الظروف الدولية تبدو مناسبة لطرح الأردن مبادرته، إذ بينت الحرب في أوكرانيا الحاجة إلى خفض التوتر والتصعيد حول العالم، كما أن البيئة الإقليمية والعربية تبدو أكثر تعاطفاً مع سوريا بعد الزلزال المدمر، الذي خلف أعداداً كبيرة من القتلى وخسائر تُقدر بالميارات، حيث زار دمشق وزير الخارجية الأردني، ووزير الخارجية المصري سامح شكري، ومن قبلهما وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد، فضلاً عن المحاولات الروسية لعودة العلاقات بين دمشق وأنقرة.

4- القيام بمشاريع اقتصادية ذات طبيعة استراتيجية مع سوريا: تتزامن المبادرة مع سعي الأردن لتقديم معادلة جيواقتصادية إقليمية، قد تساهم في جذب الحكومة السورية وروسيا، عبر مشاريع اقتصادية ذات صبغة استراتيجية، في مقدمتها الاتفاق الرباعي لإعادة إحياء خط الغاز العربي، بواسطة أنابيب تنطلق من مصر، مروراً بالأردن وسوريا، ووصولاً إلى لبنان، إلى جانب توسيع الشراكة الثلاثية بين عمان والقاهرة وبغداد، لتشمل مشاريع مشتركة مع دمشق.

ومنذ أكثر من عامين، في 2021، أكد العاهل الأردني، الملك عبد الله الثاني، أن الأردن هو “ثاني أكثر دولة تضرراً بعد سوريا، جراء العقوبات الاقتصادية الأمريكية والأوروبية، إلى جانب أن الأردن يحتاج إلى التعامل مع الحكومة السورية، باعتبار أن الأردن يستضيف أكثر من مليون لاجئ سوري”. ولعل تصريحات الملك الأردني هذه، وصولاً إلى زيارة الصفدي إلى دمشق مؤخراً، تؤشر إلى إدراك الأردن فعلياً لأهمية العلاقات مع سوريا.

5- تخفيف الضغوط الناتجة عن اللاجئين السوريين بالأردن: كان وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، قد حذر، في 11 سبتمبر الماضي، خلال استقباله المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فيليبو غراندي، من “التدني اللافت في الدعم الدولي للاجئين في المنطقة”، وكانت هذه إشارة إلى أن الأردن يستضيف نحو 650 ألف لاجئ سوري مُسجلين لدى الأمم المتحدة، بينما تُقدر عمان عدد الذين لجئوا إلى المملكة بنحو 1.3 مليون شخص.

وبالتالي، تأتي أهمية تصريح الصفدي لقناة “المملكة” الأردنية، في ختام زيارته إلى دمشق، بأنه “بحث خلال لقائه بالرئيس السوري بشار الأسد، ووزير الخارجية فيصل المقداد، الجهود المبذولة لتهيئة الظروف التي تسمح بالعودة الطوعية للاجئين، ويُخلص سوريا من الإرهاب الذي يُشكل خطراً علينا جميعاً”؛ خاصة أن هناك تقارير محلية تُحذر من أزمة كبيرة قد تواجه اللاجئين السوريين في الأردن، تجعلهم غير قادرين على تأمين الحياة الكريمة، خاصة مع تأكيد الأردن أن تكلفة اللاجئين على أراضيه تتجاوز 12 مليار دولار سنوياً.

ومن هنا، يأتي أحد أهم الأسباب وراء طرح المبادرة الأردنية لإرساء الأمن في الجنوب السوري، عبر محاولة توفير إمكانات العودة الطوعية للاجئين السوريين على أراضيه إلى سوريا، أو إلى مناطق الجنوب السوري في الحد الأدنى.

حضور إقليمي

في هذا السياق، يمكن القول إن مبادرة الأردن الجديدة لحل الأزمة السورية عموماً، وإرساء الأمن والاستقرار في الجنوب السوري بوجه خاص، تأتي كمحاولة للحفاظ على الحضور الأردني كفاعل إقليمي، عبر إظهار القدرة على أداء دور الوسيط، بين الأطراف الإقليمية، في النزاع السوري؛ معتمداً في ذلك على حصول تحولات مُقبلة على صعيد الموقف الدولي من سوريا، وتشكل رغبة عربية شبه مُعلنة في جذب النظام السوري إلى الدائرة العربية، وإبعاده نسبياً عن المجال الإيراني.

وكما يبدو، تتميز المبادرة الأردنية عن سواها من المقترحات الخاصة بحل الأزمة السورية، بوجود برنامج شبه تفصيلي لتطبيق خطواتها على أساس “الخطوة خطوة”، واعتماد بنودها على القرارات الدولية: 2254 و2642، بما يمنحها مرونة أكبر في التطبيق، وقدرة على تجاوز التعقيدات التي حالت دون تحقيق تقدم في الحل.