أطلقت تركيا، في 18 أبريل الجاري، عملية عسكرية جديدة في شمال العراق تحت اسم “مخلب القفل”، وتزامنت العملية مع اغتيال قادة أكراد شمال شرقي سوريا. وبدأت العملية بمشاركة طائرات حربية وهليكوبتر ومسيرة تركية، فضلاً عن القوات البرية. وتأتي الهجمات الحالية ضمن سلسلة من العمليات العسكرية التي تطلقها تركيا منذ عام 1984 ضد منظمة حزب العمال الكردستاني الذي تصنفه إرهابياً.
في تصريحات له قال وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، في 17 أبريل الجاري، إن إطلاق العملية “مخلب القفل” جاء في سياق “منع الهجمات الإرهابية لحزب العمال الكردستاني التي تحاول استهداف مواقع عسكرية حدودية”، وأضاف أن “الهدف منها ضمان أمن حدود تركيا وشعبها عبر تحييد عناصر الحزب، وذلك في إطار حق الدفاع عن النفس النابع من القانون الدولي”.
وبينما تُصرّ تركيا على استمرار تدخلاتها شمال العراق، فإن عملية “مخلب القفل” التي تأتي بعد عمليتي “مخلب النمر” و”مخلب النسر” اللتين أطلقهما الجيش التركي شمال العراق في عام 2020، قد تفاقم الضغط على العلاقات بين أنقرة وحكومة العراق المركزية في بغداد التي تتهم تركيا بأنها “لا تحترم سلامة أراضي جارتها”.
بيئة مغايرة
على الرغم من استهداف تركيا لمناطق شمال العراق في وقت سابق؛ إلا أن الحملة العسكرية الراهنة تتزامن مع متغيرات متباينة، يمكن بيانها على النحو التالي:
1- استمرار أزمة الداخل العراقي: تزامنت عملية “مخلب القفل” التي أطلقتها تركيا مع سعيها لاستغلال الأزمة السياسية التي تعصف بالعراق منذ أشهر، حيث فشلت العراق بالرغم من مرور 6 أشهر على إجراء الانتخابات البرلمانية في تشكيل حكومة جديدة، ولا تزال حكومة رئيس الوزراء “مصطفى الكاظمي” تمارس دورها كحكومة تصريف أعمال.
2- تحجيم نفوذ الفصائل الموالية لإيران: جاءت العملية العسكرية التركية بالتزامن مع محاولات رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي، وعدد من القوى السياسية العراقية، محاصرة إيران والمليشيات الموالية لها في الداخل العراقي، وبخاصة مليشيا الحشد الشعبي التي تحمل توجهات مضادة لتركيا. ويشار إلى أن الكاظمي تمكن بصورة لافتة من تحجيم نفوذ مليشيات الحشد الشعبي الموالية لإيران، إذ رفض التمويل الحكومي لقوات الحشد الشعبي، وسعى لإنهاء دور قوات الحشد بعد القضاء على داعش.
3- تطور العلاقة مع إقليم كردستان العراق: تنامت العلاقات بين تركيا وإقليم كردستان بصورة لافتة، وكشف عن ذلك زيارة رئيس إقليم كردستان نيجرفان بارزاني لتركيا، في 15 أبريل الجاري، ولقاؤه الرئيس التركي، وتأكيده على توسيع التعاون مع تركيا بهدف دعم الاستقرار والأمن شمال العراق، خاصة وأن التوتر يخيم على العلاقة بين حكومة إقليم كردستان ومقاتلي حزب العمال الكردستاني، الذين يعقّد حضورهم في المنطقة علاقات الإقليم التجارية المربحة مع تركيا. بالتوازي مع ذلك، تسعى تركيا للاستفادة من الصعود الكردي في العراق، وتعاظم نفوذ الإقليم ودوره في صوغ المشهد السياسي العراقي، بهدف امتلاك أوراق يمكن توظيفها عند الضرورة للضغط على الحكومة العراقية التي تعارض التدخل العسكري التركي شمال العراق.
دوافع متنوعة
تسعى تركيا إلى تحقيق أهداف عديدة من العملية العسكرية الحالية يمكن تناولها على النحو التالي:
1- تأمين الوجود التركي داخل العراق: تحرص تركيا بشكل لافت في الوقت الحالي على اتخاذ جملة من التدابير والتحركات التي تستهدف حماية وتأمين الحضور التركي في العراق من المخاطر التي باتت تحدق بهذا الحضور، خاصةً من جانب المليشيات الموالية لإيران. ويُشار -في هذا الصدد- إلى أن آخر أبرز التهديدات الموجّهة للحضور التركي كان الهجوم الذي تعرّضت له قاعدة “زليكان” العسكرية التركية في محافظة نينوي شمالي العراق بقصف صاروخي في فبراير الماضي.
في هذا السياق، فإن الانخراط العسكري التركي شمالي العراق مجدداً لا ينفصل عن مساعي أنقرة لتأمين حضورها في العراق، خاصة مع تصاعد تعقيدات المشهد السياسي في الداخل العراقي. وتجدر الإشارة إلى أن أنقرة دخلت مباشرة وعلناً على خط التحالفات السياسية التي شهدتها الانتخابات العراقية التي أُجريت العام الماضي، وظهر ذلك في استقبال الرئيس التركي في أكتوبر 2021 رئيس البرلمان وزعيم حزب تقدم محمد الحلبوسي، وزعيم “تحالف عزم” خميس الخنجر.
2- الحرص التركي على إظهار القوة الرادعة: تحاول تركيا عبر العملية العسكرية التي أطلقتها مؤخراً شمال العراق توجيه رسالة ردع ضد القوى المناوئة لها في الساحة العراقية، وتجلى ذلك من خلال الضربات المتقطعة التي قام بها الجيش التركي خلال الشهور الماضية، فضلاً عن العمليات العسكرية التي أطلقها في عام 2020.
في سياق متصل، قالت وزارة الدفاع التركية إن تحركاتها شمال العراق تهدف تدريجياً إلى تطويق جبال قنديل (المعقل الأول لتنظيم العمال الكردستاني)، والوصول أيضاً إلى منطقة سنجار التي تقول تركيا أيضاً إنها تحوّلت إلى “قنديل ثانية”. وفي تعليقه على عملية “مخلب القفل” التي أطلقتها أنقرة قال رئيس دائرة الاتصال بالرئاسة التركية فخر الدين ألطون، إن بلاده تُطبّق بفاعلية استراتيجية “القضاء على الإرهاب في معاقله”، فيما أكد فؤاد أوقطاي نائب الرئيس التركي، إن “تركيا مصممة على دحر المنظمات الإرهابية وداعميها داخل حدود البلاد وخارجها”.
وتُبدي تركيا إصراراً لافتاً على مواصلة شن غارات جوية بشكل منتظم على شمال العراق، حيث تبدو العملية الجديدة مجرد بداية لعمليات استراتيجية أوسع خلال المرحلة المقبلة تهدف إلى توسيع مناطق انتشار الجيش التركي واستخدامها كقاعدة متقدمة للعمليات المستقبلية المتوقعة ضد قنديل وسنجار ومخمور، وهي المناطق التي أطلق عليها وصف “مثلث الشيطان”.
3- وأد المشروع الكرديّ في الإقليم: تبدو تركيا حريصة على الاستثمار بكثافة في الأزمة الأوكرانية لمصلحة محاصرة المشروع الكردي في الإقليم، ونسفه، وذلك من خلال توظيف الانشغال الروسي والأمريكي بالحرب الروسية-الأوكرانية. في المقابل، توفر الأزمة الأوكرانية بيئة محفزة لتركيا لوأد نفوذ الكرد في سوريا والعراق، خاصة أن موسكو وواشنطن تعارضان التدخلات العسكرية التركية شمال سوريا وشمال العراق.
في هذا السياق، فإن عملية “مخلب القفل” قد تسعى بالأساس لكسر قنوات التواصل بين المراكز الكردية في تركيا وسوريا وإيران والعراق، بشكل يمكن أن يساهم في تقويض المشروع المحتمل لإقامة دولة كردية في تلك المناطق على المدى الطويل، خاصة أن استمرار الجيش التركي في توسيع سيطرته البرية في مناطق “ميتا وزاب أفشين” شمال العراق، يجعله أقرب من مقر قيادة تنظيم حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل.
4- تحجيم نفوذ أكراد الداخل: تشير التحركات العسكرية التركية الأخيرة شمال العراق إلى أن أنقرة لا تسعى فقط إلى تقليص مستوى تهديد تمدد حزب العمال الكردستاني في الجوار العراقي، والذي يحمل تداعيات المباشرة على تركيا، بقدر ما تسعى إلى محاصرة شعبية حزب الشعوب الديمقراطي في الداخل التركي، حيث يمثل الأكراد قوة تصويتية وازنة، يمكن أن تؤدي إلى تعزيز الضغوط على حظوظ الرئيس التركي وحزبه في الانتخابات المقبلة.
في هذا السياق، فإن النظام الحاكم في تركيا يبدو بحاجة ماسة خلال هذا التوقيت إلى توظيف الانخراط في المواجهة مع الأكراد لأهداف سياسية في الداخل، فالعملية العسكرية الراهنة لا تبدو بعيدة عن رغبة حزب العدالة والتنمية في كسر الزخم السياسي المتصاعد للرئيس المشارك السابق لحزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دميرطاش المعتقل على خلفية اتهامه من قبل الحكومة في عدد واسع من القضايا السياسية.
ختاماً، يمكن القول إن عملية “مخلب القفل” قد تُعزز الضغوط التركية على حزب العمال الكردستاني في مناطق تحصينه شمال العراق، ناهيك عن أنها توفر بيئة خصبة لمحاصرة النفوذ الكردي في الداخل التركي. لكن في المقابل، فإنّ هذه العملية قد تؤدي إلى توتر العلاقة مع حكومة بغداد التي طالبت أنقرةَ بوقف خرقها لسيادة العراق، واستغلاله كساحة لتصفية حسابات. وتصاعد الغضب العراقي تجاه تركيا، وتجلّى ذلك في تحذير زعيم التيار الصدري في 18 أبريل الجاري من تكرار القصف التركي للأراضي العراقية. كما استدعت حكومة بغداد، في 19 أبريل الجاري، السفير التركي لديه، علي رضا كوناي، للاحتاج على التدخل العسكري التركي شمال العراق، ومطالبته بانسحاب كامل القوات التركية من الأراضي العراقية.