ثمة دوافع متعددة يستند إليها العراق في محاولته استئناف تصدير النفط عبر تركيا، أهمها محاولة توظيف النفط لاختراق الحصار المائي التركي على العراق، إضافة إلى محاولة التخفف من الضغوط التركية السياسية والعسكرية، فضلاً عن الوقوف عند منتصف المسافة على منحنى التنافس الإقليمي بين أنقرة وطهران، وكذلك محاولة تجاوز العجز في ميزانية العراق، وإعادة ترتيب المصالح بين بغداد وأربيل، فضلاً عن تحسين حجم التبادل التجاري مع أنقرة، ناهيك عن إمكانية التفاهم حول قرار غرفة التجارة الدولية بشكل يُخفف من الخسارة المادية للطرفين، العراقي والتركي.
إذ توقّف التصدير العراقي للنفط عبر تركيا منذ 25 مارس الماضي، بعد ساعات من إصدار هيئة التحكيم، التابعة لغرفة التجارة الدولية في باريس، قراراً بإلزام تركيا بدفع تعويضات للعراق، قدرها 1.5 مليار دولار، بشأن تصدير تركيا النفط من شمال العراق دون موافقة الحكومة الاتحادية، خلال الفترة 2018-2020.وخلال استقباله وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي ألب أرسلان بيرقدار، والوفد المُرافق له، أكد رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، أن بلاده مستعدة “لإيجاد حل لاستئناف صادرات النفط إلى تركيا”. وخلال اللقاء، وفق بيان أصدره مكتب السوداني، “تم بحث علاقات التعاون بين العراق وتركيا في مجال الطاقة وسُبل تنميتها”، كما أشار البيان إلى أن رئيس الوزراء العراقي “تطرق إلى مسألة تقاسم المياه بين البلدين”.
عوامل سياسية
تتعدد العوامل السياسية التي تستند إليها بغداد في محاولة استئناف تصدير النفط عبر تركيا، تلك التي يتمثل أهمها فيما يلي:
1- توظيف النفط لاختراق الحصار المائي: حيث يعمل العراق، من خلال عدد من الإغراءات في مجال تصدير النفط، على إثناء تركيا عن تشددها في مسألة المياه. ففي وقت يعيش فيه العراق على وقع إشكالية جفاف، يحاول التفاوض مع تركيا بشأن كميات إضافية من المياه، هذا في الوقت الذي يُدرك فيه صانع القرار العراقي أن تركيا تحاول المناورة للتوصل إلى اتفاق مفاده “النفط مُقابل المياه”.
وكما يبدو فقد كانت الزيارات التي قام بها إلى بغداد، في سبتمبر الماضي، وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، ووزير الطاقة والموارد الطبيعية بيرقدار، وكذلك المبعوث الخاص للرئيس التركي رجب طيب أردوغان لشؤون المياه فيصل إير أوغلو، إضافة إلى زيارة بيرقدار إلى بغداد منذ يومين؛ قد مثلت جزءاً من المساعي الخاصة بمحاولة حل هذه المعادلة.
2- التخفف من حدة الضغوط التركية بشأن تصنيف حزب العمال “منظمة إرهابية”: فبرغم الخسارة المالية التي مُني بها كل من العراق وتركيا، بسبب توقف صادرات النفط العراقية عبر تركيا، إلا أن حسابات الخسارة تختلف بخصوص أنقرة عنها فيما يخص بغداد.
فالتصريح الذي كان وزير الخارجية التركي قد أدلى به، أثناء زيارته إلى بغداد، قبل حوالي شهرين، حول “ضرورة تصنيف العراق لحزب العمال الكردستاني، كمنظمة إرهابية”، لا يعني سوى أن تركيا تحاول استخدام ورقة النفط للضغط على العراق لتحقيق مكاسب سياسية وأمنية، وهو في الوقت نفسه ما يدفع العراق إلى محاولة التخفف من الضغوط التركية عبر الاتفاق على استئناف تصدير النفط.
3- التوافق حول عدم انتهاك السيادة العراقية: فقد شنت تركيا العديد من الضربات الجوية، في محاولة لإضعاف حزب العمال الكردستاني في داخل العراق، حيث يتواجد الحزب على الأراضي العراقية الممتدة من السليمانية شرقاً إلى سنجار بالقرب من الحدود السورية غرباً.
واللافت هو إصرار أنقرة على ضرورة اتخاذ بغداد وأربيل إجراءات مُحددة لإنهاء تواجد الحزب على طول مئات الكيلومترات بالقرب من حدودها الجنوبية. وبالتالي، فمن غير المستغرب أن يحاول رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، من خلال استئناف تصدير النفط عبر الأراضي التركية، إنجاز اتفاق يتعلق بإمكانية التعاون مع تركيا لمنع الهجمات التي تنطلق من الأراضي العراقية، وأيضاً دعوة تركيا إلى تجنب القيام بعمليات عسكرية أحادية الجانب، كإجراء يُمثل إحراجاً داخلياً لكل من بغداد وأربيل.
4- تخفيف التنافس الإقليمي بين أنقرة وطهران: إذ إن جانباً من التنافس الإقليمي التركي الإيراني، يدور على الأرض العراقية، عبر مجموعة الفصائل المسلحة التي تدعمها إيران، لذا يتركز اهتمام رئيس الوزراء العراقي على محاولة إنجاز صفقة مع الجانب التركي بخصوص استئناف تصدير النفط.
فمن جهة، يتخلص من ضغوط الفصائل العراقية في الداخل بشأن عدم إسقاط الدعوى الثانية المرفوعة أمام غرفة التجارة الدولية، التي يُطالب فيها العراق بإلزام تركيا بدفع مبلغ التعويضات. ومن جهة أخرى، يدفع إلى الاستفادة من التعاون الاقتصادي مع أنقرة، وزيادة حجم التبادل التجاري معها.
دوافع اقتصادية
ثمة أسباب اقتصادية تستند إليها بغداد في محاولة استئناف تصدير النفط عبر تركيا، تلك التي يتمثل أهمها كما يلي:
1- محاولة تجاوز العجز في الميزانية العراقية: حيث إن توقف صادرات النفط العراقية، من كركوك وإقليم كردستان، عبر تركيا، وفقدان 450 ألف برميل يومياً من الصادرات، منذ مارس الماضي، قد ساهم في فقدان كل من بغداد وأربيل أكثر من 5 مليارات دولار. ومن ثم يُصبح تسييل هذا النفط مسألة مُلحة، بل ضرورية، لتنفيذ ميزانية العراق لسنة 2023، البالغة 150 مليار دولار، وكبح العجز الهائل الذي يصل إلى 48 مليار دولار.
ولعل هذا العجز، الذي يُشير إليه تقرير صادر عن المركز العالمي للدراسات التنموية، ومقره العاصمة البريطانية لندن، ونُشر في 30 أغسطس الماضي، هو ما يضغط على حكومة السوداني بضرورة إنجاز صفقة عودة استئناف تصدير النفط، ربما أكثر من تركيا، التي تتراوح خسائرها المباشرة ما بين 2-3 مليون دولار يومياً، من رسوم عبور النفط أراضيها، وهي أقل كثيراً مقارنة بالخسارة العراقية.
2- التفاهم حول حكم غرفة التجارة الدولية: فالحكم الصادر يقضي بوجوب دفع تركيا نحو 1.5 مليار دولار، كتعويضات إلى العراق عن تصدير نفط كردستان، دون موافقة الحكومة العراقية، خلال الفترة 2018-2020، في حين أن خسارة العراق من وقف تصدير النفط قد وصلت إلى 5 مليارات دولار خلال الأشهر الماضية.
وبالتالي، يبدو أن التفاهم حول حكم غرفة التجارة الدولية يمكن أن يحد من الخسارة العراقية، حتى في ظل المطالب التركية الصعبة في هذا الشأن، وأهمها: إسقاط المُطالبات ضدها، وزيادة رسوم نقل النفط إلى 7 دولارات لكل برميل.
3- تحسين حجم التبادل التجاري بين بغداد وأنقرة: فبحسب التقرير البريطاني، فإن حجم التبادل التجاري بين العراق وتركيا يمكن أن يرتفع، لا سيما أن العراق يعمل على إنجاز “طريق التنمية”، الذي يربط بين البصرة جنوب البلاد والحدود مع تركيا شمالاً.
وبحسب التقرير، فمن المتوقع أن يصل حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى نحو 20 مليار دولار، خلال السنوات الخمس المُقبلة، بعد أن كان 15 مليار دولار خلال العام الماضي (2022). ومن ثم فمن مصلحة العراق، كما من مصلحة تركيا، إنجاز الاتفاق الخاص بإعادة استئناف تصدير النفط عبر تركيا، كخطوة في اتجاه تحسين حجم التبادل التجاري بينهما.
4- ترتيب المصالح الاقتصادية بين بغداد وأربيل: حيث من الملاحظ أن وقف تصدير نفط كركوك وكردستان، عبر تركيا، والخسارة المادية التي مُنيت بها بغداد وأربيل، قد أديا إلى تعرض مصالحهما الاقتصادية للخطر. وبالتالي، يبدو من المفارقات أن قرار تركيا بإطالة وقف صادرات النفط العراقية، قد أعاد ترتيب المصالح الاقتصادية بين الطرفين، بغداد وأربيل.
وكما يبدو أيضاً فقد انعكس هذا الترتيب في موافقة أربيل على السماح لشركة تسويق النفط العراقية “سومو”، منذ أبريل الماضي، بالتعامل مع صادراتها النفطية. وهو ما يُمكن أن يساعد على التقارب العراقي العراقي، في حال استئناف تصدير النفط، والاتفاق بهذا الشأن مع تركيا.
مؤشر ضغط
في هذا السياق، يُمكن القول إنه على الرغم من أن العراق ثاني أكبر منتج للنفط في منظمة الأقطار المُصدرة للنفط “أوبك”، وأنه يُصدر نحو 85% من إنتاجه من الخام عبر موانئ في الجنوب؛ إلا أن الطريق الشمالي ما يزال يتمتع بأهمية اقتصادية في تصدير النفط عبر تركيا، خاصة أن هذا النفط يُمثل حوالي 0.5 بالمائة من الإنتاج العالمي.
وهكذا، يمكن أن يُمثل العراق الطرف الأقوى في التفاوض، بشأن استئناف تصدير النفط عبر تركيا، من الموقف التركي، بل يمكن أن تُعبر ورقة النفط عن “عامل ضغط” عراقي على تركيا، من خلال الاستثمار في زيادة الإنتاج من كركوك ومن كردستان، لجعل مشروع خط الأنابيب الناقل للنفط، الخط العراقي التركي، أكثر ربحية وفائدة، وبالتالي تحقيق الانفراجة في ملفات أُخرى تهم العراق، وفي مقدمتها ملف المياه، وذلك رغم الدوافع السياسية والاقتصادية التي يستند إليها العراق لاستئناف تصدير النفط عبر تركيا.