مصالح عميقة:
دوافع الصين لرفع عقوبات مجلس الأمن عن السودان

مصالح عميقة:

دوافع الصين لرفع عقوبات مجلس الأمن عن السودان



عبر مطالبة مجلس الأمن الدولي بتعديل العقوبات المفروضة على السودان، فيما يتعلق بإقليم دارفور؛ يبدو أن الصين عازمة على لعب دور أكثر نشاطاً في السودان، ضمن محاولتها لتفعيل دورها في الشرق الأوسط والقرن الأفريقي. ومع مؤشرات التقارب المستمر الذي حافظت عليه بكين في علاقتها الجيدة مع الخرطوم لسنوات؛ تتبدى مجموعة من الدوافع الدالة على أهمية السودان في الرؤية الاستراتيجية الصينية، على أكثر من صعيد، سواء كدولة واعدة استثمارياً، أو ذات موارد استراتيجية، أو كممر لعبور نفط جنوب السودان إليها؛ فضلاً عن كون السودان يمثل ثالث أكبر الشركاء التجاريين للصين على مستوى القارة الأفريقية.

كما يحددها التغيير السياسي في السودان، والتفاعلات الدولية مع الصين، تتوجه العلاقات الصينية – السودانية نحو حقبة جديدة، بعد فتور نسبي في العلاقات بينهما، منذ اندلاع الثورة السودانية في ديسمبر 2019. وهذا التوجه بدا واضحاً في دعوة نائب مندوب الصين الدائم لدى الأمم المتحدة، داي بينغ، إلى تعديل عقوبات مجلس الأمن المفروضة على السودان فيما يتعلق بإقليم دارفور.

ويتزامن التوجه الصيني الجديد مع ما يبدو أنه قبول “غربي”، أمريكي تحديداً، بحكومة الفترة الانتقالية، بعد طول رفض منذ إعلان إجراءات 25 أكتوبر 2021، التي فرضها رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني عبدالفتاح البرهان. وقد تأكد هذا القبول عبر وصول السفير الأمريكي جون غودفري إلى السودان، ليكون أول سفير لبلاده في الخرطوم بعد غياب دام 25 عاماً.

تقارب مستمر

حافظت الصين على علاقات جيدة مع كل الحكومات السودانية منذ الاستقلال، سواء كانت مدنية منتخبة أم عسكرية؛ وحينما وقع الانقلاب العسكري الذي كان يقوده البشير على الحكومة الديمقراطية الثالثة، التي لم تستمر سوى ثلاثة أعوام، توجه السودان شرقاً نحو الصين بنصيحة من حسن الترابي، بأن الغرب لن يقبل بحكومة “إسلامية” في الخرطوم. وبعد تدهور العلاقات مع الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية، وفرض العقوبات عام 1977، كانت الصين هي “الحليف الرئيسي” للسودان.

وثمة عدد من المؤشرات على التقارب المستمر بين الجانبين، لعل من أهمها:

1- اتخاذ موقف الحياد تجاه الصراع في دارفور: كان موقف الصين تجاه الصراع الدائر في دارفور، منذ اندلاعه بين النظام السابق، نظام عمر البشير، والحركات المسلحة في الإقليم، هو موقف “الحياد”؛ وذلك اعتماداً على رواية الحكومة السودانية -آنذاك- بأن الصراع هو نتيجة لحركات عصيان مسلحة معزولة سيتم السيطرة عليها. وقد جاء الموقف الصيني هذا عملاً بمبدأ “عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول”، الذي كانت تعتمده بكين في التعامل مع الدول بجنوب العالم.

وبناءً عليه، فقد مضت الصين في تقديم المساعدات لحكومة السودان، كمحاولة لاحتواء الأزمة، وكنوع من التصدي للحملة الغربية ضد السودان، خصوصاً داخل مجلس الأمن؛ حيث اعتمدت أسلوب تخفيف القرارات الصادرة عن المجلس، تفادياً لاستخدام حق النقض “الفيتو”.

2- مواجهة المحاولات الغربية لتمرير قرارات ضد السودان: فقد استخدمت الصين، ومعها روسيا، حق النقض “الفيتو”، للمرة الأولى منذ بدء العلاقات مع السودان عند اعتراضها مع روسيا، نهاية ديسمبر 2014، على مشروع قرار من مجلس الأمن بإدانة السودان، لقيامه بطرد منظمات إغاثة إنسانية دولية، وهو ما يُعد عملياً إسقاطاً للمشروع.

وفي خضمّ أزمة دارفور، كانت الصين تقابل القرارات التي يصدرها مجلس الأمن الدولي حول الوضع هناك، إما بالموافقة أو بالامتناع عن التصويت، كما حدث -مثلاً- في سبتمبر 2004، عندما أصدر المجلس قراراً (القرار رقم 1564)، الذي يدين قتل المدنيين في دارفور، فقد امتنعت الصين -حينذاك- عن التصويت وهددت باستخدام حق النقض ضد أي تحرك آخر لفرض عقوبات على السودان.

3- استمرار العلاقات بعد انفصال جنوب السودان: ظلت العلاقات الصينية-السودانية نموذجاً يُمكن أن يُحتذى، في نظر كثير من الدول الأفريقية، في حال الصمود أمام العقوبات الأمريكية. وحتى بعد انفصال جنوب السودان عن السودان، في يوليو 2011، وتوقع تصدع العلاقات بين الجانبين، مع ذهاب حوالي 75 بالمائة من النفط السوداني إلى دولة جنوب السودان؛ فقد كانت استمرارية العلاقات الصينية-السودانية فاتحة لعلاقات صينية أفريقية أخرى، كسبت منها الصين كثيراً، عبر انتشارها على ساحة القارة الأفريقية.

عوامل رئيسية

يتضافر عددٌ من العوامل والمعطيات على زيادة الأهمية الاستراتيجية لبلد عربي وأفريقي مثل السودان، وتعزيز مكانته في إطار الرؤية الاستراتيجية للصين، تجاه أفريقيا بشكل عام، ومنطقة القرن الأفريقي على وجه الخصوص. ولعل أهم هذه العوامل يتمثل فيما يلي:

1- النظر إلى السودان كدولة واعدة استثمارياً: تدرك بكين أهمية السودان باعتباره أحد أبرز البلدان الأفريقية الواعدة استثمارياً، نظراً لما يمتلكه من فرص جاذبة، ومتنوعة، في قطاعات عديدة، مثل النفط واليورانيوم والتنقيب عن الذهب، فضلاً عن الزراعة والثروة الحيوانية والبنية التحتية. ووفقاً لاتجاه رئيسي في الكتابات، فقد كشف السودان، في مارس 2021، عن رغبة ثلاث شركات صينية في الاستثمار، في مجالات الزراعة والنفط والتعدين، بقيمة مليار دولار.

هذا بالإضافة إلى تدافع بعض الشركات الصينية للعب أدوار في موانئ السودان البحرية، منها شركة الصين لهندسة الموانئ التي عرضت تمويلاً بقيمة 543 مليون دولار لتوسيع المرافق في ميناء سواكن السوداني، فيما تقوم شركة ميناء الصين بتطوير ميناء لشحن الثروة الحيوانية في هايدوب جنوب ميناء بورتسودان.

2- أهمية السودان كدولة ذات موارد استراتيجية: تتزايد أهمية السودان في السياسة الصينية، بالنظر إلى كونه من الدول المهمة المطلة على البحر الأحمر، عبر مسافة تصل إلى 600 كم، من حيث إن البحر الأحمر يُعد واحداً من أهم الممرات المائية الاستراتيجية في الرؤية الصينية نسبة إلى مبادرة “الحزام والطريق”، ومن خلاله أيضاً تعزز بكين حضورها في منطقة القرن الأفريقي، خاصة بعد تعزيز بكين وجودها العسكري في جيبوتي منذ العام 2017.

وإضافة إلى أهمية الوضع الجغراسياسي للسودان في المنطقة، وقربه من أهداف ونقاط استراتيجية في محيطه الإقليمي، يتمتع السودان بامتلاكه الموارد الطبيعية والمعادن الاستراتيجية. فالطاقة تتوافر بجميع مكوناتها في هذا البلد، مثل النفط والغاز الطبيعي، واليورانيوم الذي يرتبط بالطاقة الأعظم، وهو ما يفسر هذا الصراع بين القوى الكبرى في “غرب السودان” بعد مساعدة الغرب على انفصال جنوبه.

3- الحرص على استقرار السودان كممر لعبور نفط جنوب السودان: يأتي الموقف الصيني المؤيد للثورة السودانية في العام 2019، واعتباره الإطاحة بحكم عمر البشير شأناً داخلياً؛ شاهداً على حرص بكين على حضورها في السودان، وتعزيز علاقاتها مع النخبة الحاكمة الجديدة، لحماية مصالحها الاقتصادية وشراكتها الاستراتيجية المعلنة مع الخرطوم منذ عام 2015. بل إن استقرار الأوضاع في السودان، ومحاولة المساهمة في هذا الاستقرار؛ يمثل ضرورة بالنسبة إلى بكين، في ضوء تزايد أهمية السودان باعتباره ممراً لعبور نفط جنوب السودان، الذي يمثل 7 بالمائة تقريباً من إجمالي واردات الصين النفطية.

4- الحفاظ على السودان كثالث الشركاء التجاريين في أفريقيا: تُعتبر الصين أكبر مستثمر أجنبي في السودان، كما أن استثماراتها هناك هي الأكبر على صعيد أفريقيا؛ فيما يحتل السودان المركز الثالث على صعيد القارة الأفريقية، كأكبر شريك تجاري للصين، بعد أنغولا وجنوب أفريقيا. وإضافة إلى الإعلان، في 16 أكتوبر 2020، عن توقيع 10 اتفاقيات للتنقيب عن الذهب والمعادن وتطوير القطاع النفطي، بين السودان والشركات الصينية؛ فإن أهمية السودان تتضاعف في الرؤية الاستراتيجية الصينية، من منظور أن القروض التي تقدمها الصين إلى السودان، إنما تتم بهدف تمرير ما لديها من احتياطي من الدولار في شكل قروض بدون فوائد وبسخاء، وهو ما يساهم في تراكم ديون السودان، وفي الوقت نفسه يضمن استمرار الشراكة التجارية مع الصين، فضلاً عن انسياب النفط السوداني إليها لسنوات.

شراكة استراتيجية

في هذا السياق، يمكن القول إن أهداف الصين من علاقتها بالسودان لم تقتصر على تأمين احتياجاتها النفطية فقط، بل دخلت مجالات التجارة والبنى التحتية، إضافة إلى توطيد العلاقات السياسية والثقافية. وبالرغم مما بدا أنه تقليص مشاركتها الاقتصادية بعد الثورة، وإن كان واقعياً تقليصاً نسبياً؛ إلا أنها وقفت في مجلس الأمن تنادي برفع العقوبات، وتؤكد أن هذه العقوبات حدّت بشدة من قدرة الحكومة السودانية على الحفاظ على الاستقرار وحماية المدنيين في دارفور، مما ينبئ بعودة الصين لتحسين وصولها المستقبلي إلى الطاقة والمواد الخام.

ونظراً إلى مصالحها العميقة في السودان، وفي منطقة القرن الأفريقي، سوف تحافظ الصين على “الشراكة الاستراتيجية” مع السودان، كشريك تجاري واقتصادي مهم ومتميز في القرن الأفريقي، وعلى الساحة الأفريقية عموماً.