أبدت ألمانيا حرصاً لافتاً على تأكيد دعمها المطلق لإسرائيل في حربها على غزة بعد عملية “طوفان الأقصى”، وظهر ذلك في إظهار التعاطف “الرسمي” مع تل أبيب، وتبرير الجرائم الإسرائيلية ضد السكان المدنيين في غزة، بالإضافة إلى حظر التظاهرات الداعمة للفلسطينيين في المدن الألمانية ومحاصرة أنشطة عناصر حماس على أراضيها. وترتبط المقاربة الألمانية تجاه إسرائيل، بالسعي للتخلص من عبء الهولوكوست، فضلاً عن المصالح العسكرية التي تربطها بإسرائيل، وكذلك تأمين التحالف مع واشنطن الداعم الأهم لإسرائيل، علاوة على امتلاك اللوبي اليهودي نفوذاً واسعاً في الداخل الألماني، خاصة في المجال الإعلامي، وهو الأمر الذي وفر له اختراقات واسعة في الدوائر السياسية الألمانية طوال السنوات التي خلت.
أعلنت الدوائر الرسمية في ألمانيا دعمها الكامل للعمليات العسكرية التي لا تزال تشنها إسرائيل على قطاع غزة، بعد أن وصفت حماس بـ”الإرهابية“ عشية عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها الحركة في 7 أكتوبر الماضي. وتبنت ألمانيا سلسلة من الإجراءات والتحركات التي كشفت عن دعمها المطلق لإسرائيل، من خلال تبرير ضربات الجيش الإسرائيلي ضد السكان المدنيين في قطاع غزة، ومحاصرة التظاهرات الداعمة لـفلسطين في المدن الألمانية، بالإضافة إلى معارضة برلين، في 22 أكتوبر الماضي، دعوات أوروبية بضرورة وقف إطلاق النار في غزة، حيث اعتبرت وزيرة الخارجية الألمانية أن مكافحة الإرهاب أمر ضروري.
الموقف الألماني الداعم لإسرائيل لم يقتصر على ممثلي الحكومة، بل امتد إلى المنظمات المدنية والحركات الشعبية، والأندية الرياضية. بيد أن الموقف الألماني لا يرتبط بالسياسات المناهضة للمسلمين والعرب في ألمانيا فقط، بل هو مدفوع في جانب معتبر منه بعقدة الهولوكست التاريخية.
إجراءات كاشفة
اتسمت التحركات الألمانية باتجاه دعم تل أبيب بالتشدد إزاء حركة حماس، والحقوق الفلسطينية، ويمكن بيان ذلك على النحو التالي:
1- تجريم أنشطة حركة حماس: على إثر الحرب بين إسرائيل وحماس، قامت ألمانيا بإدانة حركة “حماس”، حيث قام المستشار الألماني “شولتيز” بالإعلان رسمياً عن دعم بلاده للتحركات الإسرائيلية ضد حركة حماس التي وصفها بالإرهابية. كما أعلن وزير الداخلية الألمانية، في 2 نوفمبر الجاري، عن حظر أنشطة حماس، وكذلك شبكة “صامدون” للدفاع عن الأسرى المؤيدة للفلسطينيين. في المقابل، شددت الجهات الألمانية منذ السابع من أكتوبر 2023 من تتبعها لعناصر حماس، وظهر ذلك في مطالبة وزارة الداخلية الألمانية، في 20 أكتوبر الماضي، بترحيل داعمي حماس من البلاد طالما كان ذلك ممكناً.
2- التعاطف مع اليهود والتنديد بمعاداة السامية: صرح المستشار الألماني، في 5 نوفمبر الجاري، بأن بلاده تتضامن مع اليهود، وحث المواطنين الألمان على ضرورة “حماية اليهود”، واعتبر أن التنديد بإسرائيل تعتبر “معاداة للسامية”. وأضاف في تصريحات له: “من يهاجم يهوداً في ألمانيا، يهاجمنا جميعاً”. وتابع: “إن الدولة تقوم بحماية المؤسسات اليهودية، ولن نقبل بمعاداة السامية، ولدينا قوانين شديدة الوضوح. حرق أعلام إسرائيلية يقع تحت طائلة القانون، الاحتفاء بقتل أبرياء يهود يقع تحت طائلة القانون، ترديد شعارات معادية للسامية يقع تحت طائلة القانون”. كما زار شولتيز إسرائيل في 17 أكتوبر لإبداء الدعم لإسرائيل. ومن جهته، تعهد وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس خلال زيارته لإسرائيل، في 19 أكتوبر الماضي، بمواصلة دعم ألمانيا لإسرائيل في معركتها مع حماس.
مظاهر التعاطف مع إسرائيل لم تقتصر على ما سبق، فقد زار قائد القوات الجوية الألمانية إنغو غيرها ريتس إسرائيل، في 8 نوفمبر الجاري، للتعبير عن دعم بلاده. وكشفت تقارير صحفية إسرائيلية عن أن الجنرال الألماني والفريق المرافق له تبرعوا بالدم في مركز شيبا الطبي قرب تل أبيب.
بالتوازي، ذهبت بعض القوى الحزبية بعيداً في تعاطفها مع اليهود، وكان بارزاً هنا اقتراح رئيس الحزب المسيحي الديمقراطي أن يكون التجنيس في ألمانيا مرهوناً بـ”الالتزام بحق إسرائيل في الوجود”. وفي سياق آخر، أعلن نادي ماينز الألماني إيقاف لاعبه الهولندي أنور الغازي بسبب تعليقه على الحرب في غزة، وإدانته التصرفات الإسرائيلية ضد السكان المدنيين.
3- تنظيم التظاهرات الداعمة لإسرائيل: حرصت الدوائر الرسمية والحزبية في ألمانيا، وجانب معتبر من مؤسسات المجتمع المدني، على تنظيم تظاهرات داعمة لإسرائيل، والتأكيد على حقها في الدفاع عن النفس، وكان أهمها التظاهرة التي تم تنظيمها في العاصمة برلين في 22 أكتوبر الماضي، وشاركت فيها الأحزاب الديمقراطية الخمسة الرئيسية والطائفة اليهودية ونقابات عمالية ومنظمات أصحاب العمل. وأعلنت القوى السياسية المشاركة في التظاهرة، عن اصطفاف ألمانيا إلى جانب إسرائيل، وأشار الرئيس الألماني “شتاينماير” الذي كان على رأس المظاهرة، إلى أن المحرقة تعني أن ألمانيا تتحمل مسؤولية خاصة لحماية حياة اليهود.
4- حظر التظاهرات الداعمة للفلسطينيين: شهدت ألمانيا أكثر من 450 مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين منذ عملية “طوفان الأقصى”، ونددت التظاهرات بعمليات الإبادة التي يمارسها الجيش الإسرائيلي ضد سكان غزة المدنيين، كما احتفت بعض التظاهرات بحركة حماس، وهو ما أثار غضب الحكومة الألمانية، وهنا يمكن فهم انتقاد وزير الداخلية الألمانية للاحتجاجات الداعمة للفلسطينيين، حيث وصفها بالمشينة، والتي “لا يمكن احتمالها”. كما دعت نقابة الشرطة الألمانية إلى تشديد شروط خروج مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين في المدن الألمانية. في هذا السياق، قررت برلين حظر التظاهرات الداعمة للفلسطينيين، كما حظرت سلطات ولاية برلين الألمانية ارتداء الكوفية الفلسطينية في المدارس، حيث اعتبرتها تشكل “تهديداً للسلام”.
5- تعزيز الدعم العسكري لإسرائيل: أبدت ألمانيا حرصاً لافتاً على تعزيز مساعداتها العسكرية لإسرائيل بعد عملية “طوفان الأقصى”. فعلى سبيل المثال، وافقت الحكومة الألمانية، في 2 نوفمبر الجاري، على تصدير معدات عسكرية بنحو 303 مليون يورو إلى إسرائيل مقابل معدات عسكرية بقيمة 32 مليون يورو فقط العام الماضي. كما كشفت تقديرات محلية عن أن برلين صدرت معدات عسكرية وأسلحة بأكثر من 300 مليون يورو إلى إسرائيل خلال العام 2023، بزيادة تصل إلى 10 أضعاف عن العام 2022، ناهيك عن منح 185 ترخيصاً من إجمالي 218 موافقة لتصدير الأسلحة خلال العام 2023 لإسرائيل، وتغطي التراخيص مجموعة من الأسلحة العسكرية الهجومية، بالإضافة إلى مكونات أنظمة الدفاع الجوي، وذخائر فتاكة. كما تجدر الإشارة إلى أن الحكومة الفيدرالية أنشأت مجموعة عمل مؤلّفة من وزارة الخارجية، ووزارة الشؤون الاقتصادية، ومكتب مراقبة الصادرات المكلف بتسريع طلبات الأسلحة الإسرائيلية.
على صعيد ذي شأن، وجهت وزارة الدفاع الألمانية، في 12 أكتوبر 2023، بوضع مسيّرتين حربيّتين من طراز “هيرون تي بي” تحت تصرف إسرائيل، بهدف استخدامها في الهجوم على قطاع غزة. كما أصدرت الوزارة بياناً رسمياً ينص على موافقتها على إمداد تل أبيب بطائرات بدون طيار.
6- رفض وقف إطلاق النار: على الرغم من تبني دول أوروبية حملات دعم لإسرائيل، إلا أنها دعت إلى ضرورة وقف إطلاق النار، وظهر ذلك في دعوة وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل، في 8 نوفمبر الجاري، إلى وقف الحرب، وإدخال المساعدات الإنسانية لسكان غزة. كما أعلنت فرنسا أن الدول المشاركة في المؤتمر الإنساني بشأن غزة الذي استضافته باريس في 9 نوفمبر 2023، قدمت التزامات بمساعدات تتجاوز قيمتها مليار يورو إلى القطاع، في حين دعا الرئيس ماكرون للعمل من أجل وقف إطلاق نار بين إسرائيل وحركة حماس، بعدما كان يتحدث عن ضرورة تنفيذ “هدنة”. بيد أن ألمانيا لا تزال تعارض وقف إطلاق النار، وظهر ذلك في معارضتها دعوة الاتحاد في 22 أكتوبر الماضي لوقف الحرب. واعتبرت برلين على لسان وزيرة خارجيتها، أن ذلك قد يسمح لحماس بتنظيم صفوفها، وعودة أنشطتها الإرهابية.
اعتبارات حاكمة
ثمّة العديد من الدوافع التي تقف وراء سياسة الدعم المطلق التي تنتهجها ألمانيا ناحية إسرائيل منذ عملية “طوفان الأقصى”:
أولها: يرتبط برغبة ألمانيا في التخلص من إرث “محرقة الهولوكست”، وتطوير الصورة الذهنية لألمانيا في الوعي الجمعي اليهودي من خلال التأكيد على الدعم المطلق لإسرائيل في مواجهة حماس. وهنا، يمكن فهم تصريحات المستشار الألماني، الذي قال في 14 أكتوبر الماضي أمام البوندستاج “البرلمان الألماني”: “لإسرائيل الحق، المنصوص عليه في القانون الدولي، في الدفاع عن نفسها ومواطنيها ضد هذا الهجوم”، وتابع: “لا يوجد سوى مكان واحد لألمانيا في هذا الوقت، وهو بجانب إسرائيل. تاريخنا ومسؤوليتنا الناشئة عن المحرقة اليهودية (الهولوكوست)، تجعل مهمتنا الدائمة أن ندافع عن أمن دولة إسرائيل”.
وثانيها: يرتبط بالتطور الحادث بين البلدين في المجال العسكري، وهو ما تجلّى في توقيع البلدين، في سبتمبر 2023، اتفاقاً تشتري بموجبه برلين منظومة الدفاع الصاروخية المتطورة “آرو 3” المصممة لاعتراض الصواريخ الباليستية بعيدة المدى، وذلك في إطار سعي برلين لتعزيز دفاعاتها الجوية في ظل استمرار الأزمة الأوكرانية.
وثالثها: امتلاك اللوبي اليهودي نفوذاً واسعاً في الداخل الألماني، خاصة في المجال الإعلامي، وهو الأمر الذي وفر لـ”اللوبي اليهودي” النجاح في تحقيق اختراقات واسعة في الدوائر السياسية الألمانية طوال السنوات التي خلت، وهو ما يفسر استمرار تحركات برلين لدعم إسرائيل والصهيونية.
ورابعها: يعود إلى حرص برلين على كسب ود واشنطن الداعم الأول لإسرائيل، خاصة أن واشنطن لا تزال تحتفظ بقرابة 36 ألف جندي في ألمانيا، بالإضافة إلى حاجة برلين لتعزيز تحالفها مع واشنطن خلال المرحلة المقبلة، خاصة بعد تغيير برلين رؤيتها لروسيا بعد اجتياحها لأوكرانيا، فقد أدركت أن روسيا ليست الشريك الذي كانت تراهن عليه، وباتت ثمة مخاوف ألمانية من أن تمتد طموحات الكرملين إلى ما وراء أوكرانيا.
تسخين الداخل
ختاماً، يمكن القول إن ثمة توافقاً ألمانياً بين كافة الأوساط السياسية الرسمية والمعارضة على أولوية دعم إسرائيل في مواجهة حركة حماس، وظهر ذلك في التأكيد على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها باستخدام الأدوات العسكرية، وهو الأمر الذي ربما ينعكس على المصالح الألمانية في الشرق الأوسط، فضلاً عن انعكاسات سياسة الدعم المطلق لإسرائيل على تسخين جبهة الداخل الألماني، إذ إن ثمة تعاطفاً شعبياً واسعاً مع غزة، ورفضاً للتوجهات الخارجية الألمانية بشأن الموقف من الجرائم الإسرائيلية ضد الفلسطينيين.