تراجع النفوذ:
دوافع التغييرات الهيكلية في بنية تنظيم “داعش”

تراجع النفوذ:

دوافع التغييرات الهيكلية في بنية تنظيم “داعش”



فرضت الهزائم والضربات العسكرية القوية التي تعرَّض لها تنظيم “داعش” في الفترة الماضية، العديد من التغييرات في بنيته الهيكلية، لاسيما فيما يتعلق بالتقسيم الإداري للتنظيم على المستوى المركزي من ناحية والعلاقات البينية والتنظيمية بين الأفرع والتنظيم الرئيسي من ناحية أخرى. فخلال عام 2021، أقدمت القيادة المركزية للتنظيم في كل من سوريا والعراق على إعادة هيكلة أفرع التنظيم المختلفة، والتي كان يطلق عليها “ولايات”، بالإضافة إلى إجراء عملية دمج واسعة النطاق للعديد من الملفات النوعية على مستوى الإدارة المركزية للتنظيم، وهو ما يطرح العديد من التساؤلات حول مستوى وأنماط هذه التغييرات الهيكلية التي جرت داخل التنظيم ودلالات ذلك.

ثلاثة مستويات

منذ نشأة التنظيم في عام 2014، كان يعتمد على مستويين في البناء التنظيمي: الأول، هو القيادة المركزية، والتي تشمل قائد التنظيم ومجلس الشورى والنواب الثلاثة، بالإضافة إلى اللجان النوعية المسئولة عن العديد من الملفات المختلفة ومنها الخدمي، والأمني، والعسكري، والمالي، والإعلامي. والثاني، هو الولايات، وهى مجمل أفرع التنظيم سواء على المستوى المركزي أو على مستوى الأفرع المختلفة داخل بعض دول العالم والإقليم، والتي وصلت إلى ما يقرب من 21 فرع أو “ولاية”.

ومع مقتل مُؤسِّس التنظيم أبوبكر البغدادي في العملية العسكرية التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية في 27 أكتوبر 2019، وتولي أبي إبراهيم الهاشمي القرشي مسئولية التنظيم، والذي تزامن مع مقتل العديد من قياداته على المستوى المركزي، بدأ التنظيم في إعادة صياغة بنيته الهيكلية لتشمل مستويات رئيسية ثلاثة، وذلك على النحو التالي:

1- القيادة المركزية للتنظيم: وتشمل زعيم التنظيم وثلاثة نواب، كل نائب يتابع العديد من الملفات تحت مسمى النائب الأول للأمور العسكرية والأمنية، والنائب الثاني لمتابعة الخدمات من تعليم ودعوة، والنائب الثالث للأمور الإدارية والمالية والإعلامية. ويأتي بعد ذلك مجلس شورى التنظيم مع دمج العديد من اللجان، والتي كانت تسمى “ديوان”، مثل دمج ديوان الشرطة الإسلامية مع الديوان العسكري، بالتوازي مع إلغاء البعض الآخر منها مثل ديوان التعليم.

2- الأفرع “الولايات”: قام التنظيم، خلال عام 2021، بدمج بعض الأفرع “الولايات” تحت مسمى فرع واحد، كما حدث في العراق بدمج العديد من الأفرع والولايات تحت مسمى “فرع العراق” أو ما يطلق عليه التنظيم “ولاية العراق”، وهو الأمر نفسه الذي حدث في سوريا وغرب أفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء.

3- قاطع “المقاطعات”: وهو المستوى الجديد الذي تم استحداثه في التنظيم ليعبر عن الأفرع التي تم إدماجها ببعض مناطق تمركز التنظيم، حيث يشكل ما يطلق عليه التنظيم مصطلح “القاطع”، الذي يرادف مصطلح “المحافظة”، ومن ثم فكل فرع “ولاية” يضم العديد من القواطع ولكل قاطع مسئول تنفيذي يطلق عليه التنظيم المسئول العسكري للقاطع داخل الولاية.

علاقة جديدة

تأسست العلاقة بين التنظيم المركزي والأفرع المختلفة، منذ نشأة التنظيم وحتى مقتل البغدادي، على شكل هرمي مركزي، حيث يتم تعيين مسئول الأفرع من قبل التنظيم المركزي، وفي الغالب يكون أحد قيادات التنظيم المركزي التي تحمل الجنسية العراقية، وهو ما تكرر كثيراً خلال السنوات السبع الماضية، كما حدث في ليبيا مع بداية نشأة فرع التنظيم.

ولكن كان لافتاً خلال العام الجاري ومع مقتل العديد من قيادات أفرع التنظيم خارج نطاق سوريا والعراق، أن “داعش” بدأ في وضع صيغة جديدة تقوم على الفصل بين “الولى” و”مسئول التنظيم”، أى أصبح للتنظيم قيادتان: الأولى، يطلق عليها مسمى “الولى” ويتم تعيينه من قبل التنظيم المركزي وفي أغلب الأحيان يكون من العراق، أو من الجيلين الأول والثاني للتنظيم. والثانية، يطلق عليها مسمى “مسئول التنظيم” ويتم اختياره من قبل البيئة المحلية لتمركز التنظيم، وهو ما أعطى مساحة من اللامركزية لأفرع التنظيم من حيث اختيار المستويات القيادية، بالإضافة إلى وضع تكتيكات التحرك من حيث طبيعة المُستهدَف والاستراتيجية القتالية وتحديد شكل العلاقة بين التنظيم والبيئة المحلية بدول التموضع للتنظيم، فضلاً عن أنه ساهم في تقليص حدة الاستياء من قبل قواعد التنظيم بالأفرع المختلفة تجاه القيادة المركزية بسبب إصرارها على اختيار قيادات ومسئولين لأفرع التنظيم من جنسيات أخرى.

دلالات مختلفة

تطرح هذه التغييرات الهيكلية في مجملها دلالات عديدة يتمثل أبرزها في:

1- تصاعد حدة “أزمة القيادة”: تعرَّض تنظيم “داعش” للعديد من الضربات الأمنية الشديدة خلال العامين الماضيين، على نحو أسفر عن مقتل أغلب قياداته من الصفين الأول والثاني، سواء على المستوى المركزي أو على مستوى الأفرع، وهو ما فرض أزمة قيادة، مما دفع التنظيم المركزي إلى دمج العديد من اللجان المركزية والأفرع، بسبب تراجع أعداد المسئولين المُؤهَّلين لتولي قيادة الأفرع واللجان المختلفة، سواء على المستوى المركزي (سوريا والعراق) أو على مستوى الأفرع المختلفة.

2- احتواء استياء قواعد التنظيم: منذ نشأة التنظيم عام 2014، بدأ في اعتماد استراتيجية السيطرة على الأفرع عبر تعيين مسئولين للأفرع من الجيل المُؤسِّس، إذ كانت لدى التنظيم شكوك في البيعة وعلاقة الارتباط والولاء التنظيمي تجاه بعض الأفرع، لاسيما أن أغلب الأفرع التابعة لـ”داعش” كانت في الأساس تابعة لـ”القاعدة”، حيث كان التنظيم يخشى إعادة تكرار ما حدث مع تنظيم “جبهة النصرة” (هيئة تحرير الشام) عندما انفصلت عن أبوبكر البغدادي وشكلت مستوى تنظيمياً مستقلاً.

3- اتباع سياسة لامركزية جديدة: مع ضعف الموارد المالية والقدرات الاستراتيجية للتنظيم المركزي منذ سقوط الباغوز في مارس 2019، بدأ التنظيم في مواجهة العديد من التحديات على مستوى العلاقة مع الأفرع المختلفة، نتيجة تراجع الدعم الذي يقدمه، وهو ما دفعه إلى منح مزيد من اللامركزية للأفرع، لاسيما فيما يتعلق بتدبير الموارد المالية مع توسيع مساحة الحركة لكل فرع في تحديد طبيعة المُستهدَف وتكتيكات التحرك في ظل حالة التضييق الأمني والتخوف من رصد الاتصالات بين الأفرع والتنظيم المركزي.

4- فقدان السيطرة على الأرض: أدت الهزائم العسكرية التي منى بها “داعش” إلى فقدانه السيطرة على مساحات كبيرة من الأرض التي اجتاحها منذ منتصف عام 2014. ومن هنا، بدأ التنظيم في تبني سياسة “العودة للصحراء”، وهى السياسة التي دفعته إلى إلغاء العديد من اللجان النوعية المختلفة “الدواوين” على المستوى المركزي، نتيجة تراجع أهمية الاعتماد عليها، خاصة خلال المرحلة التي يطلق عليها التنظيم “عدم التمكين”، وهو ما انعكس أيضاً على اللجان النوعية على مستوى أفرع التنظيم، والتي تقلَّصت لتصل إلى 5 لجان نوعية، مع تراجع عدد أعضاء مجلس شورى الجماعة.

إعادة هيكلة

في المجمل، يمر تنظيم “داعش” بما يمكن تسميته بـ”مرحلة إعادة هيكلة” على المستويين التنظيمي والاستراتيجي، وهو ما قد يشكل ملامح جديدة للتنظيم، والتي يمكن أن تنعكس على طبيعة المُستهدَف وتكتيكات العمليات الإرهابية التي يمكن أن يقوم بها التنظيم المركزي والأفرع المختلفة خلال المرحلة المقبلة.