انعكاسات التمدد:
دوافع التصعيد ضد النفوذ الإيراني في بغداد وكابول

انعكاسات التمدد:

دوافع التصعيد ضد النفوذ الإيراني في بغداد وكابول



بات التوتر يمثل سمة رئيسية في العلاقات بين إيران وكل من أفغانستان والعراق، على نحو بدا جلياً في المظاهرات التي نظمت ضد إيران في كابول، بموافقة حركة “طالبان”، والتهديدات التي ما زالت طهران توجهها إلى العراق بشن عمليات عسكرية جديدة داخل أراضيها، على غرار العملية التي نفذتها في مدينة أربيل العراقية في 13 مارس الماضي. وفي الواقع، فإن ذلك يفرض مزيداً من الضغوط على حكومة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي التي منحت الأولوية، منذ وصوله إلى منصبه في 5 أغسطس الماضي، لتحسين العلاقات مع دول الجوار، حيث بدأت القوى المناوئة لها في استغلال تلك التطورات، بالإضافة إلى تعثر مفاوضات فيينا حول الاتفاق النووي، في شن حملات متواصلة ضد السياسة التي تتبناها الحكومة. ويمكن تفسير تصاعد هذا التوتر في ضوء اعتبارات عديدة، يتمثل أهمها في تزايد أعباء استضافة اللاجئين الأفغان على الأراضي الإيرانية، ومحاولات إيران ممارسة ضغوط على “طالبان” عبر حلفائها مثل “فيلق فاطميون”، فضلاً عن إصرارها على تحويل العراق إلى ساحة لتصفية الحسابات مع خصومها الإقليميين والدوليين، ومحاولاتها توجيه رسائل تهديد إلى القوى السياسية العراقية المناوئة لمساعي حلفائها تكريس سيطرتهم على دوائر السلطة في بغداد.

يواجه النفوذ الإيراني في كل من العراق وأفغانستان أزمات عديدة في المرحلة الحالية، على نحو يزيد من حدة الضغوط التي تتعرض لها إيران على الساحة الإقليمية، بالتوازي مع تعثر مفاوضات فيينا حول الاتفاق النووي التي توقفت منذ 11 مارس الماضي. فقد تصاعد التوتر بين إيران وحركة “طالبان” بشكل ملحوظ، على نحو انعكس في المظاهرات التي اندلعت أمام السفارة والقنصلية الإيرانية في كابول وهرات، في 11 أبريل الفائت، احتجاجاً على ما أسماه المتظاهرون “المعاملة السيئة” التي يلقاها اللاجئون الأفغان في إيران، وهي المظاهرات التي أشارت تقارير عديدة إلى أنها حظيت بموافقة حركة “طالبان”. كما نشبت اشتباكات حدودية بين قوات حرس الحدود من الطرفين، في 23 من الشهر نفسه، دفعت السلطات الإيرانية إلى إغلاق معبر “دوغارون”.

وبالتوازي مع ذلك، تفاقم التوتر بين إيران والعراق، على خلفية الهجمات الصاروخية التي شنها الحرس الثوري ضد ما أطلق عليه “قاعدة استخباراتية” تابعة لإسرائيل في مدينة أربيل العراقية، في 13 مارس الماضي، إلى جانب الخلافات المتصاعدة حول ملف المياه. ورغم الزيارات المتبادلة التي يقوم بها المسئولون من الجانبين، إلا أن إيران ما زالت حريصة على توجيه تهديدات تفيد بأنها قد تُقْدِمُ على شن عمليات عسكرية مماثلة في المرحلة القادمة، في حالة ما إذا اعتبرت أن هناك ضرورة لذلك وفقاً لرؤيتها. ففي هذا السياق، كان لافتاً أن أمين المجلس الأعلى للأمن القومي علي شمخاني أكد، خلال استقباله رئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي، في 27 أبريل الفائت، أن “إيران سترد بسرعة وحزم على أي عمل يهدف إلى الإضرار بأمنها المنطلق من الأراضي العراقية”، مشيراً إلى “الإجراءات غير المقبولة التي اتخذت من داخل العراق ضد مصالح إيران”.

أسباب عديدة

قد تكون هذه التطورات في مجملها هي الأسباب المعلنة للتوتر الحالي الذي تتسم به العلاقات بين إيران وكل من العراق وأفغانستان، إلا أن ذلك لا ينفي أن ثمة أسباباً أخرى ربما تكون أكثر أهمية تفسر إلى حد كبير ما يجري الآن من تصعيد بين هذه الأطراف، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:

1- تزايد أعباء استضافة اللاجئين: تعد إيران من أكثر الدول التي تستضيف لاجئين أفغاناً. وتتضارب التقديرات حول أعداد اللاجئين الأفغان في إيران. فبينما تشير إحصاءات بعض المنظمات المعنية باللاجئين إلى أن أعدادهم تصل إلى أكثر من ثلاثة ملايين شخص، كان لافتاً أن تقديرات المسئولين الإيرانيين أنفسهم متناقضة، حيث قال الرئيس إبراهيم رئيسي، في بداية أبريل الفائت، إن أعدادهم تصل إلى 4 ملايين شخص، في حين قال وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في 31 مارس الماضي، إن أعدادهم تبلغ 5 ملايين شخص. وفي كل الأحوال، وبصرف النظر عن الأعداد الحقيقية، فإن وجود اللاجئين الأفغان على الأراضي الإيرانية، والذي تزايد عقب سيطرة حركة “طالبان” على الحكم، فاقم من حدة الضغوط المعيشية التي تواجهها إيران بسبب استمرار الأزمة الاقتصادية وعدم الوصول إلى تسوية لأزمة الاتفاق النووي يمكن أن ترفع بمقتضاها العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران. وقد انعكست هذه الأزمة في التحذيرات التي تطلقها بعض المؤسسات في الدولة من اندلاع احتجاجات جديدة بسبب ارتفاع أسعار السلع الغذائية.

2- الاستناد إلى نفوذ المليشيات “الجوَّالة”: كان لافتاً أن “فيلق فاطميون” الذي قامت إيران بتكوينه وتدريبه من الشيعة الأفغان الذين اختارتهم من بين اللاجئين القاطنين على أراضيها للمشاركة في الصراع السوري إلى جانب قوات الرئيس بشار الأسد، انخرط في الأزمة الداخلية الأفغانية خلال الآونة الأخيرة. فبحسب وسائل إعلام إيرانية، أصدر الفيلق بياناً، في 26 أبريل الفائت، ندد فيه بالعمليات الإرهابية التي تعرضت لها بعض المساجد والمدارس في أفغانستان، معتبراً أن الهدف منها هو إشاعة الفوضى وعدم الاستقرار وتهيئة المجال أمام تعزيز النفوذ الإسرائيلي في أفغانستان. وتعمد الربط بين هذه الأحداث وبين الاعتداء الذي وقع في مرقد الإمام الرضا بمدينة مشهد الإيرانية في 5 من الشهر نفسه. ويمكن القول إن إصدار هذا البيان يعد بمثابة رسالة تفيد بأن إيران لديها القدرة على مواجهة أية تهديدات قد تتعرض لها مصالحها في أفغانستان عبر استخدام حلفائها، خاصة أن إيران لم تعد تستبعد احتمال تكرار سيناريو عام 1998 من جديد، خلال النسخة الأولى من حكم “طالبان”، رغم أن الأخيرة حريصة على تجنب التعرض للسيناريو نفسه الذي انتهى بالإطاحة بها من الحكم.

3- تصفية الحسابات مع الخصوم: ما زالت إيران حريصة على تصفية حساباتها مع خصومها الإقليميين والدوليين على الأراضي العراقية، إلى جانب أراضي دول أخرى، مثل سوريا ولبنان. وفي هذا السياق، يبدو أن إيران تتوقع أن تتزايد حدة الهجمات التي يمكن أن تتعرض لها في المرحلة القادمة سواء انتهت مفاوضات فيينا بالوصول إلى صفقة أو فشلت في تحقيق ذلك، على نحو دفعها إلى مواصلة توجيه تهديدات بأن لديها القدرة على استهداف مصالح خصومها، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، أو رفع كلفة أي عمل عسكري أو أمني قد تتعرض له خلال المرحلة القادمة.

4- توجيه تهديدات للقوى المناوئة للحلفاء: تراقب طهران بدقة تطورات الصراع السياسي داخل العراق خلال الفترة الحالية، على خلفية استمرار التجاذب بين قوى “الإطار التنسيقي” الموالية لها وقوى “إنقاذ وطن” التي تضم التيار الصدري و”تحالف السيادة” و”الحزب الديمقراطي الكردستاني”. ورغم أن قوى “الإطار التنسيقي” نجحت حتى الآن في عرقلة خطط التيار الصدري والقوى المتحالفة معه لتشكيل الحكومة وانتخاب مرشحهم لرئاسة الجمهورية، إلا أن إيران لم تُجْرِ تغييراً في موقفها باتجاه “التهدئة” مع التيار المناوئ لحلفائها، بل إنها أمعنت في توجيه مزيد من التهديدات التي تفيد بإصرارها على مواصلة نفوذها داخل العراق، حيث باتت تعتبر أن المحاولات التي كانت تجري لتشكيل حكومة لا تضم القوى الموالية لها أو انتخاب رئيس لا تدعمه الأخيرة تهدف في الأساس إلى احتواء نفوذها والتماهي مع الخطاب العام الذي تبنته القوى التي شاركت فيما يسمى بـ”حراك تشرين”، في إشارة إلى المظاهرات التي شهدتها العراق في بداية أكتوبر 2019 احتجاجاً على تردي الأوضاع المعيشية وتفاقم النفوذ الإيراني.

أزمات مستمرة

ربما يمكن القول في النهاية إن هذه الأزمات سوف تبقى عنواناً رئيسياً للتفاعلات التي تجري بين إيران وكل من العراق وأفغانستان خلال المرحلة القادمة. فطالما أصرت إيران على تعزيز نفوذها واستخدام مليشيا وقوى موالية لها في تحقيق هذا الهدف، فإن ذلك سوف يعزز من احتمالات تصاعد حدة التوتر بين الدول الثلاث، خاصة في ظل الاستحقاقات المؤجلة التي قد تشهدها بعض الملفات الرئيسية خلال المرحلة القادمة.