أزمة مزمنة:
دوافع التصعيد العسكري بين إيران وباكستان

أزمة مزمنة:

دوافع التصعيد العسكري بين إيران وباكستان



رغم أن الخلافات العالقة بين إيران وباكستان حول التعامل مع التهديدات التي تفرضها أنشطة بعض الجماعات المسلحة عبر الحدود ليست جديدة؛ إلا أن الجديد في الأمر هو استناد الدولتين إلى الخيار العسكري للتعامل مع تلك التهديدات، على نحو يوحي بوصول تلك الخلافات إلى مستوى غير مسبوق، وبتعرض الدولتين لضغوط قوية دفعتهما إلى تبني هذا الخيار في النهاية.

ففي هذا السياق، قامت باكستان، في 18 يناير الجاري، بشن عملية عسكرية داخل حدود إيران، أشارت تقارير عديدة إلى أنها وصلت إلى مسافة 80 كم في عمق الأراضي الإيرانية. ومثّل ذلك رداً على العملية العسكرية التي قامت إيران بتنفيذها، قبل ذلك بومين، داخل الأراضي الباكستانية.

أسباب عديدة

يمكن تفسير استناد إيران وباكستان إلى الخيار العسكري في التعامل مع التهديدات التي تتعرضان لها عبر الحدود في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:

1- احتواء الخلل الأمني القائم: جاءت الهجمات العسكرية التي شنتها إيران داخل الأراضي الباكستانية ضمن العملية واسعة النطاق التي شنتها، خلال يومي 15 و16 يناير الجاري، داخل كل من العراق وسوريا، حيث حاولت، ضمن أهداف عديدة سعت إلى تحقيقها، احتواء الانتقادات التي تعرضت لها الأجهزة الأمنية بسبب ما اعتبرته اتجاهات عديدة بمثابة خلل أمني أسفر عن وقوع أحداث أمنية نوعية، على غرار العملية التي أعلن تنظيم “داعش” مسئوليته عنها، في 3 يناير الجاري، ووقعت بالقرب من قبر القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري قاسم سليماني، فضلاً عن الهجوم الذي نفذته جماعة “جيش العدل” في مدينة راسك بمحافظة سيستان بلوشستان، في 15 ديسمبر الفائت، وأسفر عن مقتل 12 شرطياً إيرانياً.

2- وضع حدود لقواعد الاشتباك: رغم أن باكستان استهدفت، حسب البيان الذي صدر عن وزارة الخارجية، جماعات انفصالية باكستانية تتخذ من الأراضي الإيرانية نقطة انطلاق لشن هجمات داخل حدودها؛ إلا أن الرسالة الأساسية من الهجمات كانت موجهة إلى إيران، ومفادها أن هناك قواعد محددة للاشتباك، تفرض خيارات معينة على الطرفين في معالجة الخلافات العالقة فيما بينهما. وربما يكون أحد المحفزات التي دفعت إسلام أباد إلى المسارعة بالرد على الهجمات العسكرية الإيرانية، هو تعمد طهران أن تأتي هذه الهجمات في سياق العملية الثلاثية التي شنتها ووجهت خلالها ضربات داخل كل من العراق وسوريا، بما يعني أن باكستان ربما سعت عبر ذلك الرد السريع إلى توجيه رسائل تحذيرية إلى إيران من عواقب تكرار هذا النهج، لا سيما أن لديها من القدرات والخيارات ما يمكن أن يُضفي على ردودها المستقبلية نوعاً من الخصوصية مقارنة بردود فعل كل من سوريا والعراق إزاء هذه الهجمات.

3- تفاقم الخلافات حول الملفات الإقليمية: ويأتي في مقدمتها الملف الأفغاني، حيث سبق أن وجهت إيران اتهامات مباشرة إلى باكستان بدعم حركة “طالبان” ومساعدتها في الوصول إلى الحكم مجدداً في كابول بعد انسحاب القوات الأمريكية في منتصف أغسطس 2021، بل والاستفراد بالحكم، بعد محاصرة وتقييد قدرات المكونات المجتمعية الأخرى في أفغانستان.

ففي هذا السياق، دعت وزارة الخارجية الإيرانية، في 6 سبتمبر 2021، إلى إجراء تحقيق في التدخل العسكري في شئون أفغانستان، وأشار المتحدث السابق باسم الوزارة سعيد خطيب زاده إلى “تقارير عديدة كشفت عن تعاون باكستان مع طالبان فی قتل أهالي بنجشير، لمساعدة الحركة في هزيمة المقاومة التي يقودها أحمد مسعود بالإقليم”. وكانت إيران قد مارست ضغوطاً قوية على حركة “طالبان” من أجل منعها من الاستفراد بالحكم وإشراك ما يسمى “جبهة المقاومة الوطنية” معها في السلطة، إلا أن “طالبان” رفضت ذلك وسعت إلى تبني الخيار الأمني والعسكري في إدارة علاقاتها مع تلك القوى.

4- الصراع على خطوط المواصلات إلى آسيا الوسطى: كان لافتاً أن إيران وباكستان انخرطتا في تنافس محموم على الوصول إلى دول آسيا الوسطى، عبر جذب الاستثمارات الأجنبية لتطوير بعض الموانئ الرئيسية، على غرار ميناء تشابهار الإيراني وجوادار الباكستاني. ومن دون شك، فإن ما زاد من حدة هذا التنافس هو انخراط بعض القوى الإقليمية فيه، مثل الهند التي أبرمت اتفاقيات عديدة مع إيران، لتطوير ميناء تشابهار، الذي يسمح لها بالمرور إلى دول آسيا الوسطى دون العبور من الأراضي الباكستانية، والصين التي أبرمت بدورها اتفاقيات مع باكستان لتطوير ميناء جوادار، الذي يمثل الممر الاستراتيجي للصين للوصول إلى الشرق الأوسط وأوروبا في إطار مشروع “الحزام والطريق”.

واللافت في هذا السياق، هو أن أفغانستان بدورها بدأت تنخرط تدريجياً في التنافس المتصاعد بين الموانئ الباكستانية والإيرانية. فرغم أن الموانئ الإيرانية تواجه مشكلات لا تبدو هينة، ولا سيما في ظل العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية على إيران؛ إلا أن بعض التعقيدات اللوجستية تحول دون استخدام كابول للموانئ الباكستانية بشكل أكثر فاعلية، على نحو دفعها خلال الفترة الأخيرة إلى التعويل على ميناء تشابهار في الوصول إلى الهند ودول آسيا الوسطى.

5- تراجع نتائج الوساطة الصينية: سعت الصين إلى تقليص حدة الخلافات بين باكستان وإيران خلال الفترة الأخيرة. وكان لافتاً أن بكين استضافت قائد الشرطة الإيراني أحمد رضا رادان في 16 يناير الجاري، أي في اليوم نفسه الذي وجهت فيه إيران ضربات عسكرية داخل أفغانستان، حيث التقى عضو مجلس الدولة وزير الأمن العام الصيني وانغ شياو هونغ. ورغم أن تعزيز التنسيق الأمني بين الصين والدولتين بات يكتسب اهتماماً خاصاً من جانب بكين، خاصة في ظل الاستهداف المتكرر لمصالحها الاقتصادية داخل باكستان تحديداً، إلا أن الخلافات الحدودية بين طهران وإسلام أباد سيطرت على المحادثات التي أجريت، والتي حاولت من خلالها بكين تجنب توسيع نطاق التصعيد بين الطرفين.

لكن هذه الجهود قوبلت، على ما يبدو، برفض من جانب إسلام أباد، في ضوء حرصها -كما سلفت الإشارة- على وضع قواعد للاشتباك لإدارة الخلافات مع طهران، كخطوة استباقية قبل الانخراط في أية محادثات أو تفاهمات أمنية لاحتواء تداعيات هذه العمليات المتبادلة وتوسيع نطاق التعاون الأمني للتعامل مع التهديدات التي تتعرضان لها عبر الحدود.

في ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إنه رغم حرص الدولتين على توجيه رسائل تهدئة عقب كل عملية عسكرية، ورغم بقاء احتمال وصولهما، بمساعدة الصين، إلى تفاهمات أمنية مشتركة؛ إلا أن استنادهما للخيار العسكري في إدارة الخلافات العالقة عبر الحدود سوف يبقى علامة فارقة في العلاقات بين الدولتين، التي يبدو أنها دخلت مرحلة جديدة منذ 16 يناير الجاري.